استمع للقرآن الكريم

ثلاث وقفات مع الاستسقاء

0 التعليقات
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله؛ يَفعل ما يشاء، ويَحكم ما يريد، لا إله إلا الله الوَلِي الحميد، لا إله إلا الله الواسع المجيد، لا إله إلا الله المرجو للإحسان والإفضال والمزيد.

سبحانه مُفَرِّج الكُربات، ومُجيب الدعوات، والقائم بأرزاق المخلوقات.

أمَّا بعدُ:
فيا أيها الكرام، أوصيكم ونفسي بوصيَّة الله لنا ولِمَن قَبلنا: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

أيها المصلُّون، ها نحن نستسقي بعد أنْ تأخَّرَ المطر عن بلادنا؛ اقتداءً بسُنَّة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - نطلب من ربِّنا الغيثَ، وها هنا وقفاتٌ ثلاث:
الوقفة الأولى: ضرورة إظهار الافتِقار لله، والتضرُّع له - سبحانه - فبعض الناس حين يسأل ربَّه السُّقْيَا، يطلبه ويسأله غيرَ مُفتقرٍ ولا مُنكسِرٍ كما ينبغي، وربُّنا يريد منَّا الانكسارَ والتضرُّع؛ ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43]، وفي الآية الأخرى يقول - سبحانه -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام: 42].

فلنسأل الله مُستَشعِرين ضَعفنا وحاجتنا؛ فالانكسار سببٌ لإجابة الدعاء، وقد ذَكَر بعضُ أهْل العلم أنَّ الانكسار هو السرُّ في إجابة دعوة المسافر والمظلوم والصائم.

الوقفة الثانية: أهميَّة الغيث، نعم، حتى وإنْ كانتْ خَزانات المياه ملأى من مشاريع التحْلِيَة؛ لأنَّ المطرَ رحمةٌ، فربُّنا - سبحانه - سَمَّى المطر رحمة؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]، وقال: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50]، ووصَفَه بالرِّزْق؛ ﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [الجاثية: 5]، إذ بالمطر ينبتُ الزرع ويدرُّ الضَّرْع، ووصَفَ الله المطر بالطهور؛ قال - سبحانه -: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ [الفرقان: 48]، ووصَفَه الله بأنَّه مُبارَك، والبركة: كَثَرة الخير؛ ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9]، وقد جَعَل الله من الماء كلَّ شيء حيٍّ.

الأمطار نفْعٌ لأهل الماشية وأهْل الزراعة، الأمطار أُنْسٌ وسعادة لكلِّ أحد، وصدَق الله: ﴿ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الروم: 48].

أيها الكرام، في الأمطار والسيول عِبَرٌ وآيات كثيرة، ولا أدَلُّ على ذلك ممَّا جاء في القرآن الكريم؛ من الآيات الكثيرة التي جاءتْ بشأْنه، بَدْءًا بنشوئِه وتكوُّنه، ونزوله وتحوُّله، وجَرَيَانه في الأوْدِيَة، وما يَحمله من غُثاء وزَبَد، ثم إخراجِ الأرض زينتَها من نباتها وأزهارها، ثم اصفرارِه وذَرِّ الرياح له، كلُّ هذا ذَكَره الله في كتابه، وضرَبَ لنا به الأمثال المتعدِّدة، فكم من الفوائد العظيمة المتنوِّعة التي تحصل بالأمطار؛ فوائدَ دينيَّة وصِحيَّة، وبيئيَّة وتجاريَّة، وراحة نفسيَّة... وغير ذلك كثير.

فإذا تذكَّر الواحد هذه المنافع وغيرها واستشعرَها، عَلِم ضرورتنا إلى السُّقْيا.

الوقفة الثالثة: الأخْذ بالأسباب الشرعيَّة للسُّقْيا، وجِماع ذلك التقوى؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].

ومن التقوى التوبةُ والاستغفارُ؛ ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52].

إخواني، كلُّنا ذَوو خطأ، لكنَّ الفَرْق بين عباد الله أنَّ منهم من هو مُسْرِف في المعاصي، ومنهم من هو مُقِلٌّ منها، ومنهم بين ذلك، ثم هم بعد الوقوع في الخطيئة منهم سريع الندم والرجوع ويُكثِر من الطاعات، ومنهم بطيءٌ عن ذلك أو مُصِرٌّ، فالتوبة من وظائف العُمر المتكرِّرة، وعندما يُبتَلى الواحد منَّا بمعصية، فإنَّه يُوصَى بأمرين: التوبة من هذا الذنب، وعَمل طاعة لله؛ قال - سبحانه -: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، ولا سيَّما ونحن في عشرٍ فاضلةٍ هي أفضل أيَّام السَّنة.

وأختمُ الحديث بهذا الحديث الذي أخرَجَه الشيخان: يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ما منكم من أحدٍ إلاَّ سيكلِّمه ربُّه، ليس بينه وبينه تُرْجمان، فينظر أيْمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشْأَم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تِلقاء وجْهه، فاتَّقوا النار ولو بشِقِّ تمرة))؛ وزاد مسلم: ((ولو بكلمةٍ طيِّبة)).

ربَّنا ظلمنا أنفسنا، اللهم إنك عفو، اللهم اغفر لنا، اللهم أنت الله لا  إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم إنَّا نسألك بأنَّا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد، اللهم أغثْنا، اللهم أنزلْ علينا من بركات السماء، وأنْبِتْ لنا الزرع.

البر حقيقته وخصاله

0 التعليقات

البر حقيقته وخصاله


يا أيها الناس اتقوا الله العظيم والزموا البر فإن الله تعالى هو البر الرحيم ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[1].

عباد الله: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[2].

عباد الله:
البر اسم جامع للخير كله فيشمل الإيمان والتقوى والطاعة والصدق والوفاء فهو خير الدنيا والآخرة معا، فخير الدنيا ما يسره الله للعبد من الهدى والنعمة والخيرات، وخير الآخرة الفوز بالمغفرة والرحمة والرضوان والنعيم في والجنان.

معشر المسلمين:
البر الإيمان والتقوى والبر الطاعة التي ترضى وإنفاق المال إبتغاء وجه الله جل وعلا فلن تنالوا البر حتى تؤمنوا وحتى تتقوا، ولن تنالوا البر حتى تحسنوا وتنفقوا، ﴿ ومن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[3]، ﴿ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ[4].

معشر المؤمنين:
البر زيادة في العمر، وبركة في العمل، ومثراة في المال، وكثرة في النسل، ومحبة في الناس، ومودة في صدور المؤمنين، وسعة في الرزق، وسبب في حسن الخاتمة، ومنجاة من عذاب الله في البرزخ وفي الآخرة وسبيل إلى رضوان الله والجنة، جعله الله تعالى ميداناً فسيحاً لتنافس المتنافسين وسبباً جامعاً لسعادة الدارين.

أمة الإسلام:
أعلى خصال البر صلاح النية واتباع السنة يقول تعالى ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[5] ويقول سبحانه ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[6].

أمة الإسلام:
ومن أعظم خصال البر بعد الإخلاص والسنة وأصول الإيمان وأركان الإسلام بر الوالدين بطاعتهما في غير معصية الله والإحسان إليهما ابتغاء وجه الله وحسن الأدب معهما والدعاء لهما، وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي توصل إلى برهما قال تعالى ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ إلى قوله ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[7].

معشر المؤمنين:
وإن من البر صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين والأيتام، حسن الجوار لأهل الإسلام، ومن له أو ذمة من الأنام بكف الأذى وبذل الندى وطلاقة الوجه عند اللقاء، وإفشاء السلام، وطيب الكلام، وإطعام الطعام، وإسداء النصيحة، ومنح المنيحة، وإبرار المقسم، والبعد عن المأثم، وأسباب المغرم، وعيادة المريض وإتباع الجنازة، وحيازة... له خير حيازة فكل ذلك بر جزاءه الجنة فما أعظم المنة.

معشر المؤمنين:
وإن من البر لزوم السكينة عند الإتيان إلى الصلاة، وفي أداء سائر العبادات قال صلى الله عليه وسلم "أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بالايضاع يعني الإسراع".

معشر المؤمنين:
وإن من البر الصدق والبيان في البيوع وغيرها من التعاملات فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، وقال صلى الله عليه وسلم "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين"، وقال عليه الصلاة والسلام: "أيها التجار إن التجار هم الفجار، أو قال يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق".

ألا فاتقوا الله عباد الله، وتنافسوا في خصال.

العودة إلى القرآن

0 التعليقات

العودة إلى القرآن


الحمد لله الذي تكلم بالحق، وبالحق متكلما لا يزال، إذا قال - وقوله الحق - ارتعدت السماوات الثقال، وخشعت له الملائكة الطوال، أحمده، وحمدنا له من نعمه علينا، وأثني عليه، وثناؤنا عليه من فضله الواصل إلينا، لم يزل متكلمًا بصيرًا، ولا يزال سميعًا قديرًا، وأصلي على نبيه خير الورى محمد، وأسلم على سيد الخلق المسدد، صلاة لا تنقطع ولا تنقضي، وسلامًا لا يبيد ولا ينتهي، وعلى زوجاته العفيفات أمهات المؤمنين، وعلى بناته، ومنهن فاطمة سيدة نساء العالمين، وعلى بنيه الأطهار، وعلى صحبه الأخيار، ومن تبعهم على الهدى إلى يوم ينقطع كل مُلْكٍ، عدا مُلك الواحد القهار.

أما بعد: فإن الإنسان تتقاذفه الحياة الدنيا بين النصب في طلب رزقه ومعيشته، والراحة في بيته وعند زوجته، فيأخذ عمله من وقته نصيبا، ونومه يأخذ نصيبا، وراحته تأخذ نصيبا، وإذا سألته لم خلقت؟ سيجيبك بلا تردد: لطاعة الله. وتسأله ما نصيب ما خلقت له من وقتك؟ وما نصيب ما خلقه الله لك من وقتك؟ حينها ينطق الجواب الذي يستطيع كثير من الناس البوح به، ولا الإفصاح عنه، وهو ما لا يرضاه العاقل العارف بأن وراءه يوما ثقيلا!

أيها العقلاء!
إن انشغالنا بأعمالنا، وترفيه أنفسنا، وتغذية أبنائنا وأزواجنا، يجعل اللبيب يسهو، فإذا أبصر نفسه، فإذا هو لم يراوح مكانه، فلم يستزد من طاعة، ولم يحصل من علم، حتى إذا أتاه اليقين تفكر فندم، وتبصر ولكن تحسر.

إنها دعوة - أيها المسلمون - إلى أن نعود إلى المنهل العذب، والمورد النمير، إلى القرآن الكريم؛ إذ جعل الله سعادة عباده في كتابه، وبهجة قلوبهم في كلامه، ونور بصائرهم في تلاوة آياته؛ فأقربهم منه منزلة أكثرهم إياه ذكرا، كلام معجز، وقرآن مبهج، وحبل متين، ونور مبين، ينطق بالعظمة، ويُصحب بالبركة، يصدح بالألوهية، وينطق بالربوبية.

لنقف - يا كرام - على سر من أسرار القرآن العظيم، يجعل ذهن القارئ يضع هذا الأمر بين عينيه أثناء تلاوته للقرآن، وسيتعجب منه أشد العجب. إن الله - جل وعلا - قد ذكر في القرآن العظيم أحكاما وحِكما، وقصصا وعبرا، وعقائد وتشريعات، وأخبارا وتنبيهات، وكل ما ذكر في القرآن تجد بينه كلّه رابطا دقيقا، وحبلا وثيقا، ولنتأمل شيئا من الآيات؛ لنستظهر هذا السر! لننظر في الآيات التي تتحدث عن تغيير القبلة، وأحكام الصلاة، وهي مسألة فقهية، سنجد أن القرآن ينبهنا أن المقصد الأسنى من ذكر هذه الحادثة التاريخية، هو اختبار النفوس في مدى استسلامها لأمر الله، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143]، وآيات القصاص تختم بتقوى الله، ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، وآيات الصيام كذلك، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ولما ذكر الله - تعالى - مناسك الحج وأعمالها وشعائرها، ووصل إلى لحظة اختتام هذه المناسك وانقضائها، أعاد الأمر مجددا لربط النفوس بالله، وإحياء حضور الله في القلوب ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 200]، والإنسان في دنياه بين حالين، حال الأمن، وحال الخوف، ففي حال الخوف يؤمر بالصلاة التي تسمى صلاة الخوف، وحين يزول خوفه ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 239]، والإنسان لا يخرج عن حال السلم أو الحرب وفيهما يأتي التنبيه على المقصد العظيم، وهو التذكير بالله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]؛ فربط حالهم في القتال بأمر الله، بل وحين ذَكَرَ الله - جل وعلا - ابن ءادم حين يعصيه، جعل باب الرجوع إليه مربوطا بذكر الله ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 135]، بل وأدق من هذا، فإن الإنسان لا يعدو أن يكون قائما أو جالسا أو مضطجعا، وفي هذه الأحوال كلها ربط القرآن الكريم حال الإنسان بالله ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191]. أيُّ تعلقٍ بالله؟ وأي نفوس معمورة بربها أكثر من هذه الصور المشرقة؟ نفوس مملوءة بربها ومولاها لا تغفل عن استحضار عظمته، والتأله له لحظة واحدة! ولما ذكر الله الصلاة في سورة "طه" أشار إلى غاية تغيب عن بال الكثيرين من المصلين، فضلا عمن دونهم، فربما يتحدث الواحد عن عظمة الصلاة، وأنها الركن الثاني في الإسلام، وعما سوى ذلك، وينسى سبب تشريع الصلاة، وأنها مكان لاستحضار قرب الله وذكره؛ ولذا قال سبحانه: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، هكذا بكل وضوح، يقيم المسلم صلاته؛ ليذكر الله - جل وعلا - ويعظمه. والحدث العظيم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير، يستعينهم في عقلٍ أصابه. فقالوا: نعم. اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس، فقال حييّ بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرّاً أبداً. فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت - أي: من مكانه". فحتى في هذه القصة وغيرها يستثير القرآن ذكريات الصحابة؛ ليرتفع بالقلوب إلى مولاه الذي حرسهم وحرس نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فيقول - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة: 11]. أيها المؤمنون! وإذا نظرنا إلى القرآن وهو يحدثنا عن المصائب التي تصيب الإنسان، ورغم أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب، إلا أنه يربط الفؤاد بالله - سبحانه - وهو يصارع البلاء ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].

بل إن القرآن يصل النفوس بالله بطريقة فريدة، وهي تنويع أسماء الله وصفاته في موطن واحد؛ لتتعدد الأمور التي يتعلق فيها العبد بالله، ولنقرأ آخر سورة من القرآن ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 3]، فيأمر الله عباده أن يستعيذوا به بمقتضى ربوبيته، فإذا فعلوا ذلك انفتح على قلوبهم مشهد آخر، وهو الاستعاذة به بمقتضى ملكه، فإذا تشبعت قلوبهم بذلك، استعاذوا به - سبحانه - بمقتضى ألوهيته. أيها الأحبة! إذا قرأتم القرآن في قادم الأيام والليالي، فاستحضروا مراد الله - جل جلاله - في الآيات التي تقرؤونها، فإن القرآن من مفتتحه إلى مختتمه يوجه العباد إلى التعلق بالله، واستحضار عظمته، وقدره حق قدره، وعمارة النفوس به، وإذا تشبع قلب قارئ القرآن بهذه الحقائق، أثمرت له في نفسه عجائب الإيمان، وأصبح لا يساكن قلبه غير الله - جل جلاله -، وبرأ قلبه من الحول والقوة إلا بالله، وصار ينزل به حاجاته، ولهذا قال بعض السلف:" من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله". ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -:"فإن القلب بيت الإيمان بالله تعالى ومعرفته ومحبته".اهـ. فما أقرب الساعة التي سيسألنا الله فيها جميعا ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 66]، فبم ستجيب ربك سبحانه وتعالى؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].

جمعة مباركة

0 التعليقات

خطبة المسجد الحرام 4/1/1432 هـ - الاعتبار بانقضاء الأعمار

0 التعليقات

الاعتبار بانقضاء الأعمار


نبذة مختصرة عن الخطبة:
ألقى فضيلة الشيخ عبدالرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الاعتبار بانقضاء الأعمار"، والتي تحدَّث فيها عن انقضاء الأزمان والدهور، وانصرام الأعوام والشهور، وبيَّن فيها غُنْم من علَتْ همَّتُه في بلوغ رضا الله - سبحانه -، وغَبْن من فاتَتْه الفرص تلو الفرص، وتكاسل وتباطأ، وحثَّ على التفاؤل والاستبشار بالخير دائمًا للانتهاض بالأمة من غَفَلاتها، وذكَّر بفضل صيام يوم عاشوراء، واستحباب صيام يومٍ قبله أو يوم بعده.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، أحمده - سبحانه - تفرَّد بالمجد والثناء إجلالاً وإعظامًا، وأشكره تعالى حَبَانا نِعمًا مباركةً فِعامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل لنا من تصرُّم الزمان عِبَرًا عِظامًا، فذا عامٌ تلا عامًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من حاسَبَ نفسَه - بأبي هو وأمي - قدوةً وإمامًا، صلَّى الله وبارَك عليه وعلى آله المتألِّقين بدورًا وأعلامًا، وصحبه البالغين من الهمة الشمَّاء مجدًا ترامى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقَبَ المَلَوَان ودامًا.

أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله الواحد القهار، واحذروا الغَفَلات والاغترار، واعتبِروا بتقضِّي الدهور والأعمار، واتخذوا تقواه - سبحانه - ألحَبَ سبيل لكم ومنار، تفوزوا - يا بشراكم - بالنعيم المُقيم وأزكى القرار.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].

عليك بتقوى الله في كل أمرٍ
تجِد غِبَّها يوم الحساب المُطوَّلِ
ولا خيرَ في طول الحياةِ وعيشِها
إذا أنت منها بالتُّقَى لم ترحَلِ

أيها المسلمون:
في ارتحال الزمان، وتعاقُب الشهور والأعوام بالتقضِّي والانصرام عِبَرٌ وعِظات، لمن رامَ استدراكَ الهَفَوَات، ومحاسبة الذَّوَات قبل الفَوَات، بالتقويم والمراجعات.

فالأمم الناهضة الباقية، المُستبصِرة الراقية هي التي تستنبئُ دقائقَ الأحداث الغابرة، وتفاصيل الوقائع العابرة، والغِيَر الدابرة، فتفترِضها معاقل ادِّكار، ومجاليَ استئنافٍ للطموح واعتبار، وذلك هدي القرآن الكريم في أعظم مسالك الإبصار، يقول العزيز الغفار: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2].

أحبتنا الأكارم، معاشر الأخيار:
وفي هذه الأيام السوالِف ودَّعَت أمتنا الإسلامية عامًا قد مضى وتولَّى، واستقبَلَت آخر وافانا وتدلَّى، عامٌ انقلَبَ بما لَنا وما علينا في مطاويه، وآخرُ استهلَّ شاهدًا على مُضِيِّ الدهر في تعادِيه، فنسألُك اللهم أن تُبارِك للأمة في ما قدَّرتَ فيه.

مرَّتْ سنونٌ بالوِصَالِ وبِالهَنا
فكأنَّها من قِصَرِها أيامُ
ثمَّ انقَضَتْ تلكَ السنُونُ وأهلُها
فكأنَّها وكأنَّهم أحلامُ

ومن لم يتَّعِظ بزوال الأيام، ولم يعتَبِر بتصرُّم الأعوام فما تفكَّر في مصيره ولا أناب، ولا اتَّصَف بمكارم الخُلَّص أولي الألباب، يقول الرحيم التواب: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190]، وتغافَلَ عن حقيقةٍ قاطعةٍ ساطعة هي كونُ الآخرة أبدًا، والدنيا أمدًا، أعمالُنا فيها مشهودة، وأعمارنا معدودة، وأنفاسُنا محدودة، وأقوالُنا مرصودة، والوَدَائع - لا محالةَ - مردودة، والمقام - يا عباد الله - لتبصير النفوس وإرشادها، وتصحيح عِثَار المسيرة وتذليل كئادِها، وتوجيه الأمة المباركة شطرَ العلاء الوَثَّاب، والحَزْمِ الهادِفِ الغَلاَّب.

فما أحوجَ أمتنا في هذه السانحة البينية أن تنعطِفَ حيالَ أنوار البصيرة فتستدرِكَ فَرَطَاتها، وتنعتِقَ من وَرَطَاتها، وتُفْعِمَ روحها بمعاني التفاؤل السَّنِيَّة، والرجاءات الربانيَّة، والآمال الإيجابية، والعزائم الفولاذية، وصوارِم الهِمَم الفَتِيَّة؛ كي تفِيءَ إلى مراسي الاهتداء والقِمَم، وبدائع الخِلاَلِ والقِيَم، على ضوء المَوْرِد المَعِين، والنَّبْع الإلهي المبين: هديِ الوحيَيْن الشريفَيْن، إبَّانها ستَتَعَافَى أمتُنا من التفرُّق والشَّتَات، والدُّون والانبِتات، وستنبو في قضاياها الحاسِمة عن مدارِكِ الفَشَلِ الذَّرِيع، وتَبِعَات التلكُّؤ الفظِيع.

وإنها لسانِحةٌ غرَّاء للمُناشَدة الحرَّاء التي لا يُمَلُّ تَكرارها، ولا يُسأمُ تَردَادُها للعمل الجادِّ الدَّؤُوب لحلِّ قضايا أمتنا، وانقاذ مُقدَّساتها، وتحرير المسجد الأقصى المبارك من أغلال المعتدين، وبراثِنِ المُحتلِّين بعد أن بَلَغَ السَّيْلُ زُبَاه، والصَّلَفُ الأَرْعَنُ مَدَاه، وإنه لأَوْلَى ما تهتَزُّ له الهِمَم، وتنبَعِثُ له أفئدةُ الإباء والشَّمَم.

ولو عمِلَت بدين الله حقًّا
لغَيَّر ما بها أملاً ويُسرًا
بوعدِ الله أمَّتُنا ستحْيَا
وتَلْقَى منه تأييدًا وأَزْرًا

إخوة الإيمان:
ومن الفوادِح الحازِمة التي تُكتِّم من الغَيُور أنفاسَه، وتُكبِّلُ حواسَّه: أن تَتَنَاهَشَ فئامًا من الأمة وأجيالها بوارُ الحيرة والتقاعُس، وتفترسَ كثيرًا منهم فتنُ الشهوات التي طوَّحَت بهم في كَدَر المباءَات - عياذًا بالله.

وآخرين عَصَفَتْ بهم أضالِيلُ الشُّبُهات، فنَصَبوا أشرِعَتَهم صَوْبَ فِكر التكفير والتفجير، والتخريب والتدمير، وسوى ذلك من الطوامِّ التي يتبرَّأُ منها كلُّ مؤمنٍ بالله واليوم الآخر.

ألا رُحماك ربنا رُحماك، وحمدًا لك اللهم حمدًا أن كشفتَ عَوَارَهم وفَضَحْتَ أخبارهم.

ذلكم - يا رعاكم الله -؛ وأيُّ نوائب أخرى حين يُطوِّقُ الخمول والكسل والبطالة والإحباط أفئدةً غضَّةً بضَّةً من الأمة، وأيُّ مُحرِجةٍ تلك حين تَرزَحُ أجيالٌ من الأمة منها ذوات الخدور تحت أوطار التفلُّتِ الهَبَاء، والانهزامِيَّة الرَّعْناء، واهتزازِ الثِّقةِ البَلْجَاء.

إضافةً إلى قضايا الأمة الجُلَّى التي تقُضُّ المضاجِع وتفُضُّ المَدَامِع، وإلى الله وحدَهُ المُشتَكى والمُلتجَا، وبه وحدَهُ المستعانُ والمُرتَجَى.

إخوة الإسلام:
وإننا لنُرسِلُها هتَّافةً مُكرَّرة، مُدوِّيةً مُكبَّرة، في مَطلَعِ عامنا الهجري الميمون: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]، التغيير المُنعَكِس بصدقٍ وإخلاصٍ ورُسُوخ على صعيدِ الواقع والتربية والسلوك التغييرَ الذاتي الذي يبني المجتمعات، ويستشرِفُ طلائع الأجيال الفتيَّة الصاعدة، وسبيل ذلك ورافِدُه، وأولُهُ وبادِئُه: إلهابُ علوِّ الهمة في نفوس الأمة كي تعتلِيَ الذُّرَى والقِمَّة، وإذكاءُ جُذَا الأمل والتفاؤُل في أطوار الشباب كي يستنفِرَ قُدراته ومَلَكَاته، وكفاءَاته وانتماءَاته؛ ليعيشَ حلاوة الإيمان، وبَرْدَ اليقين، وبهجة الطموح بقلبه وعقله ومشاعره، فالهمةُ القَعْسَاء، والآمالُ الشمَّاء ضياءٌ ساطعٌ في دامسِ الخُطُوب، وحكيمٌ حاذِقٌ في يهمَاء الكروب.

إنها الأمل المُشرِف المُزهِر الذي يحمِلُ النفسَ على وُلُوج المَكَارِهِ والمَصَاعِب، وخَوضِ غِمارِ المتاعب لبُلُوغ مراقي العِزَّة والفلاح، ومدرات الفوز والصلاح، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يحب معالِيَ الأمور وأشرافَها، ويكرهُ سفْسَافَها»؛ أخرجه الطبراني في "معجمه"، والبيهقي في "شعبه".

وإذا كانت النفوس كِبارًا تعِبَت في مُرادِها الأجسادُ.

وقد أرشدنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - إلى عَلِيِّ المنازل، وسَنِيِّ المقاصد؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سألتُم الله فاسألوه الفردوسَ؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن»؛ أخرجه الطبراني في "معجمه"، وابن أبي عاصمٍ في "كتاب السنة" بسندٍ صحيحٍ.

الله أكبر؛ ذلكم هو المنهج المحمدي الذي بنى طموحَ الأبطال، وزكَّى هِمَم الأجيال، وسقى فيهم حلاوة الحق بعد الوَصَب، ومعالِيَ الخلود إثرَ النصَب، وأذكى في أرواحهم مجامِر المجد ولوافِح الصمود.

إذا هَمَّ ألقى بين عينَيْه عَزْمَه
ونكَّبَ عن ذكر العَواقِبِ جانِبًا

أُثِر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: "لا تصغُرنَّ هِمَمُكم؛ فإني لم أَ أقعَدَ عن المكرُمات من صِغَر الهِمَّة".

يستنهِضُ الهِمَم العريضة للعُلا
ويحُثُّ منها نُخبةً أنجابًا
تُحيِي من الآمال أجملها وقد
أحْيَت بجَذْوةِ فِكرِها الألبابَا

ولله درُّ الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - في هِمَّته السابقة السامِقة التي عانَقَت الجَوْزَاء؛ حيث قال: "إن لي نفسًا توَّاقة لم تزَل تتوقُ إلى الإمارة، فلما نِلتُها تاقَت إلى الخِلافة، فلما نِلْتُها تاقَتْ إلى الجنة".

وقد ذكر أهل السير عن الإمام البخاري - رحمه الله - في هِمَّته العلياء أنه يستيقِظ من الليل زُهاء عشرين مرة لتدوين الحديث الشريف.

وقال أبو الوفاء ابن عقيل - رحمه الله -: "وإني لأجدُ من هِمَّتي وحِرْصِي على العلمِ وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنتُ أجدُ وأنا ابن عشرين سنة".

يا لله! يا لله! عباد الله:
أولئك الذين خلَّدَتْ هِمَمَهم وآمالَهم الدواوينُ المُسطَّرة، وسَرَتْ بأمجادهم الأنفاسُ المُعطَّرة، فلا بلوغ لمقامات العلاء إلا بمكابدة اللأْواء، واحتساء كؤوس العناء، واللُّجَيْن والدُّرّ لا يُنَالاَ إلا بالصَّابِ والمُرّ.

من أراد العُلا عفوًا بلا تعَبِ انقضَى
ولم يقضِ من إدراكها وَطَرَا
لا يُبلَغُ السُّؤْلُ إلا بعد مُؤلِمَةٍ
ولا يتمُّ المُنَى إلا لمن صَبَرَا

وكيف يُظنُّ أن غَوَالِيَ الأماني تُدرَك بالهُوَيْنَ أو التَّوَاني؟! وهل النبوغ والحضارات وأفانِين الإبداع في العلوم والنهضات لُحْمَتُها إلا الهِمَمُ الوَضَّاءة، وسَدَاها إلا العزائمُ المضَّاءة.

فيا أمة الإسلام، يا أمة الهِمَم وأجيال القِمَم:
ليكن عامُكُم الجديد للتشاؤم والتضاؤُل ناسخًا، وللإحباط والتقاعُس فاسخًا، وادأَبوا - يا رعاكم الله - أن تكونوا بالتفاؤل والإيجابية بعد التوكُّل على الله - عز وجل - واستمداد العزم والتوفيق منه كالنور الساطع يُبدِّد الظلمات، ويستحِثُّ للمكرُمات العَزَمات، وكالغيث النافع يُحيِي من الأمل ما ذبُلَ وفات، تسعَدوا وتفوزوا، وللنصر والتمكين تحوزوا، وما ذلك على الله بعزيز.

اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبتَ، وإذا سُئِلتَ به أعطيتَ؛ أن تجعل عامنا هذا عام خيرٍ وبركة ونصرٍ وتمكينٍ للإسلام والمسلمين، وهيِّئ فيه لأمة الإسلام من أمرها رشدًا، اللهم حرِّر فيه مُقدَّسات المسلمين، وأصلِح أحوالهم، ووحِّد صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا جواد يا كريم.

اللهم لا تَدَعْنا في غفلة، ولا تجعلنا في غَمْرة، ولا تأخذنا على غِرَّة، واجعل حاضِرَنا خيرًا من ماضينا، ومستقبَلَنا خيرًا من حاضِرِنا، واجعل لنا من مرور الأيام مُدَّكرًا، ومن تقضِّي الأعوام مُعتبرًا، إنك خيرُ المسؤولين، وأكرمُ المأمولين.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، لم يزَل - سبحانه - للثناء مُستوجِبًا مُستحِقًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حقًّا حقًّا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى العالمين همَّةً وأرقى، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين أرومةً وعِرْقًا، وصحبه البالغين من التُّقَى أسمَى مَرْقى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى -، وخُذوا من أنفسكم بعلو المكرُمات والهمة في أقوالكم وأفعالكم وكل مهمة تبلغوا من دنياكم وأخراكم أسنَى قِمَّة.

إخوة الإسلام:
استِهلالُ العام الهجري الجديد يُذكِّرُنا - أيها الأحبة - بحدث الهجرة الميمون، وإنه لحَدَثٌ لو تعلمون عظيم، أسفَرَ عن التمكين المكين لهذا الدين المتين بعد المُراغَمَة مع جحافِلِ الزيغ والباطل التي اندَحَرَت فليلةَ العِرنين، فانْهَلوا أيها - المؤمنون المبارَكون - من هذا النمير الرَّقْراق دروسَ الإباء والهِمَم، وبطولات التحدِّي صوبَ القِمَم؛ ليُدرِك العالمُ أجمع عزمَ أمتنا الوقَّاد كيف يُترجَم في الواقع ويُصاغ، ورحيق الأمجاد في الأفواه كيف يُساغ.

ألا فابتدِروا - أيها المُوفَّقون - غُرَّةَ شهور العام بالقُرُبات والصيام، وإن ذلك لمن علُوِّ الهمة في مطلع العام، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»؛ أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".

واحتسِبُوا فيه يومًا عظيمَ الفضل والآلاء تغنَمُوا نُهَزَ البِرِّ والهَناء، ألا وهو: يوم عاشوراء، قال المُجتبى - صلى الله عليه وسلم -: «صيام يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله»؛ خرَّجه مسلم من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -.

وهو في هذا العام يُوافِقُ يوم الخميس القادم - بإذن الله -، والسُّنَّة صيام يومٍ قبله أو يومٍ بعده، وكذا احرِصوا - يا رعاكم الله - على حضور صلاة الاستسقاء يوم الاثنين القادم - إن شاء الله -؛ إحياءً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستجابةً لدعوة نائب خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله.

والله المسؤول أن يتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال، ويُحقِّق لنا فيما يُرضيه التطلُّعات والآمال.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير البرايا من الأمم، الهادي إلى الطريق الأَمَم، ما انتَحَى العلياءَ قاصدٌ وأَمّ، كما أمركم المولى الرحيم في كتابه الكريم، فقال - سبحانه -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

وصلِّ ربِّي على المختار من مُضَرٍ
ما غرَّدَتْ فوق غُصنِ البانِ وَرْقاءُ
والآلِ والصحبِ والأتباع قاطبةً
ما لاحَ برقٌ تلا ومضٌ وأصداءُ

اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين: نبينا وحبيبنا وسيدنا وقدوتنا: محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين يا رب العالمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في ديارنا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبر والتقوى، وهيِّئ له البطانة الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم أسبِغ عليه ثياب الصحة الضافية، وحُلَل السلامة والعافية، اللهم فأدِم عليه من حُلَل العافية أضفاها، ومن ثياب الصحة أوفَاها، لا بأس طهورٌ إن شاء الله، عُوفيتَ وسلِمتَ، ونعِمتَ وما ألِمتَ، وشُفِيتَ شفاءً لا يُغادِر سقمًا.

اللهم اجعل ما ألمَّ به طهورًا، وكن به وبنا لطيفًا غفورًا، اللهم وفِّق نائب خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفِّق النائب الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاح المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.

اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لاتباع كتابك، وسنة رسولك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.

اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بالصهايِنة المُعتدين المُحتلِّين، اللهم فرِّق جمعهم، وشتِّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين.

اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى ومُقدَّسات المسلمين يا رب العالمين يا قوي يا عزيز.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك الذين يُجاهِدون لتكون كلمة الله هي العليا، اللهم انصرهم في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام يا قوي يا عزيز.

اللهم وفِّق المسلمين والمسلمين والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أصلِح ذات بينهم، اللهم اهدِهم سُبُل السلام، اللهم جنِّبهم الفواحِش والفتن ما ظهر منها وما بَطَن.

اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالنا يا ذا الجلال والإكرام.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غَرَق، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء.

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

عفة المرأة بين رعي الشريعة وجنف الزائغين

0 التعليقات

عفة المرأة بين رَعْي الشريعة وجَنَف الزائغين


إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ.... ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ.... ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا..... ﴾ [الأحزاب: 70].

أيها المؤمنون!
عيف الباطل واستهجانه سجية جبلت عليها النفوس؛ ولذا غدا من شأن المبطلين تلبيسُ باطلهم لبوس الحق، وتزويقُه بمسوحه؛ ليروج ذلك الباطل، ويُتقبل دون نفرة أو نُكرة. هذا، وإن قضية حقوق المرأة مما فحش فيه تلبيس الزائغين، واتخذوه مطيةً لبلوغ دنيّ المآرب. وحين يبزغ النور يخنس الديجور، وبإحراق الشهب تدحر الشياطين؛ وذلك ما يستحثُّ المنصفَ على معرفة منهج الخالق في خلقه؛ إذ هو الأعلم بمن خلق وما يُصلحه، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ويُدرِك به زيف قول كل من حاد عنه. وإن المتأمل في هداية الشريعة ليوقن جازماً أن صيانة المرأة وحسن رعايتها من أجلِّ مقاصد الشريعة الغراء؛ وذلك لما جُبلت عليه من ضعف بشري، وما لصلاحها من أثر بالغ على صلاح المجتمع، وهكذا فساده إن هي فسدت.

عباد الله!
إن اقتران الرعاية بالمرأة في الإسلام مبتدأ بوجودها، وانظر كيف رغّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صون تلك الرعاية إذ يقول: " من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن؛ كن له ستراً من النار " رواه البخاري ومسلم، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ يُؤْوِيهِنَّ وَيَرْحَمُهُنَّ وَيَكْفُلُهُنَّ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَلْبَتَّةَ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: " وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ". قَالَ: فَرَأَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ لَوْ قَالَ: وَاحِدَةً، لَقَالَ: " وَاحِدَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وقال الهيثمي: إسناده جيد. ومن أجل معالم رعاية الإسلام المرأةَ إحاطةُ عفتها بحمى منيع وسياج رفيع لا تبلغه أيدي تبّاع الشهوات إن هو صين؛ إذ فَرض عليها الحجاب الضافي الساترَ للبدن الخاليَ من دواعي الفتنة، وزجَرها عن إبداء الزينة لغير المحرم، وجعل اللعن جزاء تشبهها بالرجال، ووَصَفَها بالزنا إن مرت متعطرةً بين أجانبهم، ومنَعها من الخضوع بالقول وتليينه، ونهى عن الخلوة بها، وحظَر الدخول عليها والسفر دون محرم قادر على صيانتها، وأمرها بالقرار في البيت، وجعل صلاتها في دارها أفضل من صلاة المسجد وإن كان البيت الحرام، واشتَرط عقدَ الولي المرشد لصحة نكاحها، وجعل القوامة بيد الزوج، ومنعها من تولي الولايات العامة كالإمارة والقضاء.

عباد الله!
ألا وإن من أمنع وسائل الشرع المطهر في صيانة عفة المرأة زجرَها عن الاختلاط بالرجال الأجانب وإن كان المجمَع فرضاً مؤدّى، قال أبو أسيد الأنصاري - رضي الله عنه -: "سمعت رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ: « اسْتَأْخِرْنَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ »، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِه " رواه أبو داود وحسنه الألباني. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ: أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ. وَلَمَّا اخْتَلَطَ الْبَغَايَا بِعَسْكَرِ مُوسَى، وَفَشَتْ فِيهِمْ الْفَاحِشَةُ، أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ الطَّاعُونَ، فَمَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ. فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ كَثْرَةُ الزِّنَا بِسَبَبِ تَمْكِينِ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَالْمَشْيِ بَيْنَهُمْ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَجَمِّلَاتٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَوْلِيَاءُ الْأَمْرِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالرَّعِيَّةِ - قَبْلَ الدِّينِ - لَكَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ مَنْعًا لِذَلِكَ " أهـ. ولا غرو في ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم -يقول: " ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء " رواه البخاري ومسلم، ويقول: « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ » رواه مسلم. والأمر المعتاد عقلاً: أن الشيء كلما زاد قدره زيد في حفظه وصيانته، سيما عمّن له هوى فيه. ذلك يقال والحرجُ لاحقٌ كلَّ من ضيّع حق الضعيفة أو استغل ضعفها في مآرب السوء، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهُمَّ إِنِّي أحرج حق الضعيفين الْيَتِيم وَالْمَرْأَة " رواه ابن ماجه وصححه الحاكم.

أيها المسلمون!
إن المتأمل في تلك الهداية الربانية الصائنةِ عفافَ المرأة ليدرك - من غير ريبة أو مواربة - فدحَ انحراف الناكصين عن ذلك النهج الإلهي، ممن تشدّق - زوراً وبهتاناً - بنصرة المرأة والمطالبة بحقوقها في دعاوى براقة، وحملات مسعورة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لم تتعدَ قصد الابتذال ونزع الحياء وتهوين الاحتشام بغية تغيير تركيبة المجتمع الدينية بذرائع تنطف خبثاً ومكراً؛ فأقحموا المرأة في العمل المختلط بالرجال بحجة القضاء على البطالة وإن كانت حالبة بقر أو (سكرتيرة) لمدير شركة أو مسوِّقة لبيع سيارة أو (نادلة) في مطعم أو مذيعة لنشرة أخبار، ذلك وبطالة الرجل لم تحلّ بعدُ وهو المكلف بالنفقة، وبطالته أظهر حالاً وأخطر أثراً. وطنطنوا حتى أصاخوا المسامع بضرورة قيادة المرأة السيارة بزعم حمايتها من التحرش ولم ينبسوا ببنت شفة عن كشف عورتها المغلظة للطبيب حين تُعْوَزُ الطبيبة، أو ينطقوا بإنكار حوادث التحرش المتنامية على البائعات من قبل بعض من يعمل معهن من الرجال أو يشتري. وأجلبوا على رياضة المرأة ومشاركتها في (المونديالات) العالمية بذلك المصطلح المظلوم " وفق الضوابط الشرعية " بذريعة حفظ الصحة وما وجدنا لهم مطلباً برعاية حشمتها طباً ودواءً. واستغلوا بعض الممارسات المنكرة في تعنيف المرأة ذريعةً لإظهار حسن النوايا في المطالبة بالحقوق المفتراة. وأخذوا من الخلاف الفقهي وشاذ القول وفتوى الزائغين ما يتفق مع مآربهم ؛ لتكون هي المسحة الشرعية؛ ذراً للرماد في عيون الدهماء. حملات محمومة، تسعّر بأقلام مأجورة، وحسابات مأفونة، ونفوذ مشبوه، تستغل فيه الحاجة، وتستدر له العواطف، وتسطّح فيه البصائر. ويبقى - بعد ذلك - طهرُ المجتمع وعفافُه الفيصلَ بين ما يريده الله وما يريده هؤلاء كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]، وتغدو أفعال القوم ودوافعها ومآلاتها هي الحقيقة الناطقة التي تفضح زخرف قولهم وتعرّي خطله؛ فالله لا يصلح عمل المفسدين.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

أيها المؤمنون!
المرأة ميدانٌ رحبٌ لاحبٌ لسلامة المجتمع وتقوية دعائمه وإعداد بُناته وروّاده، ولن يكون ذلك إلا بلزوم أمر الله القائم على البناء والحماية؛ فتبنى المرأة بناءً تربوياً متكامل الجوانب مذ نعومة أظفارها: في الإيمان والعلم والخلق والسلوك والحشمة والوعي والمسوؤلية الخاصة بها، من قبل المنزل والمدرسة ودور التربية ومعاقل العلم والرعاية والتوجيه، وفق برامج مدروسة وتجارب ناجحة تخضع للتقييم الدوري والتطوير. وأما الحماية، فتُحقَّقُ بالتوجيه الرشيد المقنع بالتنائي عن ما ينقص الإيمان ويخدش الحياء ويزري بالحشمة في اللباس والسلوك والكلام واستخدام التقنية. ومما تقتضيه تلك الحماية فضحُ خطط التغريب في المجتمع، والردُ على شبهه، وكشفُ عواره وتناقضاته ومآربه، والتواصلُ مع ولاة الأمر من الأمراء والعلماء في مواجهته والأخذِ على يدِ سفهائه، والعملُ الجاد المؤسس في بناء الحصانة الفكرية للمجتمع من تشرّب سموم أفكار التغريب التي اشتدت حمأتها هذه الأيام. وما أجمل تلك العبارة التي سطرها غيور من ذوي العقل والخبرة إذ يقول: " أدرك الغرب بأن تفكيك التدين في الجزيرة العربية يأتي من خلال ملف المرأة ".

منْ لي بتربية النساءِ فإنَّها
في الشرق علَّةُ ذلك الإخفاق
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
الأم روضٌ تعهّدهُ الحيا
بالريّ، أورقَ أيّما إيراق
الأمُّ أستاذُ الأساتذةِ الألى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أنا لا أقولُ: دعوا النساءَ سوافراً
بين الرجال يجلنَ في الأسواق
يدرجنَ حيث أردنَ، لا من وازعٍ
يحذرن رَقْبَتَهُ، ولا من واق
يفعلن أفعال الرجال لواهياً
عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهنّ شؤونهنّ كثيرة
كشؤون ربّ السيفِ والمزراق
كلاّ، ولا أدعوكم أن تسرفوا
في الحجبِ والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكمُ حلياً وجوهراً
خوفَ الضياع تصانُ في الأحقاقِ
ليست نساؤكمُ أثاثاً يقتنى
في الدُّور بين مخادع وطباق
تتشكَّلُ الأزمانُ في أدوارها
دولاً، وهنَّ على الجمود بواق
فتوسَّطوا في الحالتين، وأنصفوا
فالشرُّ في التقييد والإطلاقِ
ربُّوا البنات على الفضيلةِ، إنّها
في الموقفين لهنَّ خير وثاق
وعليكمُ أن تستبينَ بناتُكم
نورَ الهدى وعلى الحياءِ الباقي

جميع الحقوق المحفوضة لدى كلفين للمعلوميات 2013 - 2014 | © كلفين للمعلوميات عدد الزوار المتواجدين حاليا بالموقع

back to top