استمع للقرآن الكريم

العزة



الحمد لله ذي العزة التي لا ترام، والملك الذي لا يضام، قيوم لا ينام، وعزيز ذو انتقام، وأشهد ألا إله إلا البر السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرة الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم أزكى سلام.

أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278].

أيها المؤمنون!
إن الشعور بالدونيّة والهزيمة النفسية شر هزيمة تُمْنى بها أمة؛ تفت عضدها، وتفلّ حدها، وتغيّب قُدَرَها، وتجرّئ عُداتها، ولا تقوم معه للحق قائمة. وذا ما يعارض إرادة العز لأمة الإسلام، وقدره الذي ارتضاه الله لها بقوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]؛ مهما بلغ قرحها وغار جرحها واستشرس عدوها ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]؛ حتى غدا سنام العز لأهل الإيمان شعاراً ودثاراً، يصف ذلك الحالَ إبراهيمُ النخعي بقوله: " كَانُوا يكْرهُونَ للْمُؤْمِنين أَن يُستذلوا؛ فيجترئَ عَلَيْهِمُ الْفُسَّاق ".

العزة حقيقة متى استقرت في القلب قوّته؛ فاستعلى بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، وهي منزلة شريفة تنشأ عن معرفة المرء بقدر نفسه وإكرامها عن الضراعة للأغراض والأعراض الدنية؛ فيترفّع بها عما يُلحِقه غضاضةً. وليس ذلك من الكبر في شيء؛ إذ الكبر جهل بقدر النفس وإنزال لها فوق منزلتها؛ ولهذا لما قيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما أعظمك في نفسك! فقال: لست بعظيم، ولكني عزيز.

أيها المسلمون!
لقد أكّد الله - سبحانه - استئثاره بالعزة جميعاً في ثلاث آيات من كتابه العزيز؛ فلن يجدها إلا من يتولاه، ويطلبها عنده، ويرتكن إلى حماه، يقول الله - تعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]، قال أبو بكر الشبلي: " من اعتز بذي العز فذو العز له عَزَّ "، وقال رجل للحسن: إني أريد السِّند؛ فأوصني، قال: أعزَّ أمرَ الله حيث ما كنت يعزَّك الله، قال: فلقد كنت بالسند وما بها أحد أعزُّ مني".
وَإِذَا تَذَلَّلَتِ الرِّقَابُ تَخَشُّعًا
مِنَّا إِلَيْكَ فَعِزُّهَا فِي ذُلِّهَا

ولما كانت العزة لله، وهو ربها؛ صار سبيلها مقطوعاً إلا من سبيله؛ فلا تطلب إلا منه. وأعظم سبيل لتحصيلها: الإيمان بالله - جل وعلا -، وبقدر ما حقق العبد من الإيمان يكون حظه من العزة، كما قال الله - سبحانه -: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]؛ إذ بالإيمان تكون ولاية الله التي لا يذل بها متمسّك ، ولا يعز بتركها عادٍ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ " رواه أبو داود وصححه العراقي. قال طارق بن شهاب - رضي الله عنه -: " خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟! تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟! مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ عُمَرُ: «أَوَّهْ! لو لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ لجَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ؛ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ» " رواه الحاكم وصححه على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي. ومن أجلى حقائق الإيمان التي تكمن فيها العزة حسن الطاعة والاستجابة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " جُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي " رواه أحمد وصححه الألباني، ويقول سفيان الثوري: "كَانَ يُقَالُ: مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلا عَشِيرَةٍ، وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ؛ فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ ". وأنى لمن كبّر الله حال أذانه وصلاته ونسكه ونحره وتعجّبه، وكان ذلك التكبير أول ما طرق سمعه حين ولادته - أن يذل لغيره!
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

يقول الحسن البصري: " مَنْ تَعَزَّزَ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْرَثَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الذِّلَّةَ، وَلا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ "، ويقول عن المنعَّمين الفجرة: " إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ". ألا وإن من أجل الطاعات التي رُتِّب على فعلها تحققُ العزة وعلى تركها الذلة الجهادَ في سبيل الله، يقول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذا تبايعتم بالعينة (نوع من الربا)، وأخذتم أَذْنَاب الْبَقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الْجِهَاد؛ سلّط الله عَلَيْكُم ذلاً لَا يَنْزعهُ حَتَّى ترجعوا إِلَى دينكُمْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وصححه الألباني. والجهاد طريق نخوة المؤمنين المستضعفين ونجدتهم، وَمن كَانَت النجدة طبعا لَهُ حدثت فِيهِ عزة، فكيف إن كان الباعث لها ديناً.

عباد الله!
والاستغناء عن الناس من جوادّ العزة؛ فإنما تُذِلُّ الناسَ شهواتُهم ورغباتُهم، ومخاوفُهم ومطامُعهم، أوصى جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا محمد، شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس " رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. قال حكيم: " مَنْ غَرَسَ الزُّهْدَ اجْتَنَى العِزَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الحِرْصَ اجْتَنَى الذِّلَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الطَّمَعَ اجْتَنَى الخِزْيَ ". قدم البصرةَ أعرابيٌّ فقال لخالد بن صفوان: أخبرني عن سيد هذا المصر، قال: هو الحسن بن أبي الحسن (البصري)، قال: عربي أم مولي؟ قال: مولى، قال: وبم سادهم؟ قال: احتاجوا إليه في دينهم، واستغنى عن دنياهم، فقال الأعرابي: كفى بهذا سؤدداً! قال عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: « لَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى، وَرُزِقَ بِالْوَرَعِ، أَنْ يَذِلَّ لِصَاحِبِ الدُّنْيَا ».
أرى الناس من دانهم هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس أُكرِما

أيها الإخوة في الله!
والعفو المحمود عن المسيء من سبل نيل العزة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً " رواه مسلم، وظاهر الحديث: أَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ وَزَادَ عِزُّهُ وَإِكْرَامُهُ، قال إبراهيم النخعي واصفاً حال السلف: « كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا ». والصبر والثبات طريق للظفر بحلة العز، قال الله - تعالى -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. ومن أجل سبل العزة العياذ بالله من وصم الذلة؛ فقد كان ذاك دعاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الغالب، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "اللهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِك مِن الفَقر والقِلة والذِّلة، وأَعوذُ بِك أنْ أَظلِم أَو أُظلَم " رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله....

أيها المؤمنون!
بالعزة عيش الكرامة، وقناعة السرور، ورضا الميسور، ونيل الحقوق، وإباء الاهتضام، والسمو عن الدنايا، والثبات على راسخ المبادئ، والحدب على المؤمنين، وهيب العِدى، والحمل على حسن التربية والاقتداء، والنصر على النفس الهلوع المنوع، والظفر بمحبة الله خير من ذلك كله. غير أن العزة لا تحمل المؤمن على تحمّل ما لا يطيق من البلاء، والعاقل خصيم نفسه؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه "، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء ما لا يطيق " رواه الترمذي وقال: حسن غريب وهو في الصحيحة.

وبعد - معشر المؤمنين -، دونكم مهيع العز الشامخ ومعقد لوائه الأشم؛ فتوشحوا به، وارفعوا رايته، واسلكوا سبله، وربّوا على منهجه الأبيّ أهلَ بيوتكم ومن ولّاكم الله مسؤوليته؛ فالمرء على ما اعتاد، والأمةُ اليومَ أحوجُ ما تكون إلى ذلك، وقد تكالب عليها العداة، وانبهر الكثير بتفوق الكفرة، وتبدّت صور الانهزامية، وتباينت سبل الاعتزاز، وبوارق الأمل لاحت بالفجر الصادق المبدّد لحنادس الظُلَم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المرجو نشر هذا الموضوع

Sharing Widget bychamelcool


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق المحفوضة لدى كلفين للمعلوميات 2013 - 2014 | © كلفين للمعلوميات عدد الزوار المتواجدين حاليا بالموقع

back to top