استمع للقرآن الكريم

الفساد الإداري والمالي



الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله) ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [لنساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

يقول ربنا تبارك وتعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30] فالآدميون خلقهم الله لخلافته في أرضه لإقامة أحكامه ودينه وشرعه فتارة يظهر الفساد على أيديهم كما ذكرت الملائكة وتارة يظهر الخير فيظهر الخير إذا تولى الولاية القوي الأمين فكان الأنبياء عليهم الصلاة يتولون الولايات ويحكمون البلاد ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26] وطلب الولاية الصديق يوسف عليه السلام ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55] وتولى النبي - صلى الله عليه وسلم - إدارة الدولة المسلمة في المدينة.

فالولايات من أعظم القرب لمن توفر فيه ركنا الولاية القوة والأمانة ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26] فالقوي هو من لديه خبرة وعلم فيحسن إدارة ما وكل إليه والأمين هو الذي يضع الأمور في موضعها بحثا عن المصلحة فالحاكم العادل بالمنزلة الرفيعة عند ربه فعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " رواه مسلم.

وكان يتولى الأمة في الخلافة الراشدة خيار الأمة فلم يعرف الفساد الإداري والمالي في خلافتهم.

فعناية الإسلام منصبة على عدم حصول الفساد ووصول الفاسدين لإدارة الأمة فالمسئولون في الحكومة المسلمة هم جزء من المجتمع المسلم الذي عني الإسلام بتربيتهم وتهذيبهم فالإسلام يجعل داخل كل مسلم رقيباً منه فحض على مراقبة الخالق كل وقت ففي حديث عمر - رضي الله عنه- في الصحيحين عرف الإحسان « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » فأنى يتطرق الفساد إلى مسئول يستشعر مراقبة ربه كل لحظة وبين فضيلة من يستشعر هذه المراقبة ﴿ نَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ومنهم الإِمَامُ الْعَادِلُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" رواه البخاري ومسلم.

وحتى لا يقدم على الولاية غير المؤهلين حذر الإسلام من التطلع للرئاسة وبين العاقبة الأخروية للرئاسة لمن لم يكن مؤهلا لها فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنكم سَتَحْرِصُونَ على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " رواه البخاري (7148) فالولاية الدنيوية نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمالِ ونفاذِ الكلمة وتحصيلِ اللذات وبئست الفاطمة عند ترك الوظيفة لما يترتب عليها من التبعات في الدنيا والآخرة لمن تسورها بغير حق.

من يتطلع للرئاسة لا يولى لأن غالب المتطلعين لها يرونها مغنما ووجاهة لا أمانة وحملا فعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِى عَمِّى فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ « إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّى عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ » رواه البخاري (7149) ومسلم (1733).

وحينما يتقدم غير المؤهل طالبا للولاية يمنع ويصرح له بعدم صلاحيته فمصلحة الأمة مقدمة على المصالح الخاصة فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا" رواه مسلم (1825) فلم يجامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر - رضي الله عنه -  حينما لم يكن صالحا للولاية على الرغم من زهده وديانته ولم يعرف عن أبي بكر وعمر تولية أحد من أقاربهم لا في ولاية العهد ولا غيرها فمن له ولاية يبر أولاده وأقاربه فيما يملكه لا على حساب المسلمين. وحينما يكون التعيين في ولايات المسلمين لأجل القرابة يشتد نكير السلف قال ابن حزم في الملل والنحل (4/129-131) أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته.. ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي.

وحينما يعين شخص ثم يتبين عدم صلاحيته للولاية يعزل مهما كان قربه من الحاكم فصح عن عثمان -رضي الله عنه- في قصة الوليد بن عقبة وكان أميراً على الكوفة لعثمان فعزله بسبب شربه الخمر وكان أخا له من أمه فلم تكن قرابته لأمير المؤمنين شافعة له في بقائه في الأمارة فمن خان الأمانة في خاصة نفسه سيخون الأمانة التي للمسلمين.

الخطبة الثانية
الفساد الإداري سوس ينخر في الأمة ومقدراتها وهو بوابة الفساد المالي فعالج الإسلام الفساد المالي بإغلاق الأبواب التي توصل له.

فحرم على الموظف سواء كان في القطاع الخاص أو العام أن يأخذ هدية بسبب عمله سدا للذريعة فربما كانت هذه الهدية رشوة ليتوصل بها المهدي لأمر لا يحل عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي أَفَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلأعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ " رواه البخاري و مسلم.

فمن أخذ المال بغير حق فضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].

فمن يتولى ولاية على المسلمين يحاسب وينظر في ثروته من أين أكتسبها فيقال له من أين لك هذا كما حاسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن اللتبية حتى الحاكم نفسه تحاسبه الأمة التي وكلته في إدارة شؤونها ولم يأنف النبي - صلى الله عليه وسلم - على من سأله من أصحابه -رضي الله عنهم-  لماذا أعطيت فلانا وتركت فلانا وهذا الصديق -رضي الله عنه- حينما بايعه المسلمون قال لهم في ما ثبت عنه في خطبته المشهورة: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. فأمرهم بتقويمه إذا أخطأ وحينما يترك المسئول وظيفته ينظر في ثروته هل أكتسبها بحق أو باطل فالزائد عن كسبه المباح يرد إلى بيت المسلمين.

فعن عائشة - رضى الله عنها - قالت: قال أبو بكر - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الخلافة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي... قالت عائشة - رضى الله عنها -: فلما مات نظرنا، فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه وناضح كان يسقي عليه قالت: فبعثنا بهما إلى عمر - رضي الله عنه -، قالت: فأخبرت، أن عمر - رضي الله عنه - بكى وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبا شديدا. رواه ابن أبي شيبة (7/15) وغيره بإسناد صحيح فهذا إقرار ذمة للحاكم طبقه الصديق حينما كان القيصر يملك الدنيا وما عليها ولا يتجرأ أحد من شعبه أن يحاسبه.

وحين يعين الرجل القوي الأمين في إدارة شؤون المسلمين تكفى حاجته حتى لا يتطلع إلى ما في يد غيره و حتى لا يلجأ تحت ضغط الحاجة إلى الرشوة أو غيرها فعن الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا» رواه الحاكم (1/563) وصححه فغنى الموظف من أسباب عدم خيانته.

لا تصلح الولايات إلا بأمرين بتولية الأصلح فالأصلح والمحاسبة فحتى الصالح يحتاج إلى جهة تحاسبه.

ختاما إخوتي لسنا بحاجة إلى استلهام نموذج شرقي أو غربي فعندنا في ديننا وتاريخنا الإسلامي ما أثبت صلاحه في منع الفساد قبل وقوعه فضلا عن اجتثاثه.
المرجو نشر هذا الموضوع

Sharing Widget bychamelcool


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق المحفوضة لدى كلفين للمعلوميات 2013 - 2014 | © كلفين للمعلوميات عدد الزوار المتواجدين حاليا بالموقع

back to top