استمع للقرآن الكريم

موعظة وعبرة في الأحداث

0 التعليقات
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "موعظة وعبرة في الأحداث"، والتي ذكَّر فيها بالأحداث المُعاصِرة وما فيها من عبَرٍ وعِظاتٍ، ونبَّه على أهمية العمل الصالح، والاستعداد للموت.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله آوى من إلى لُطفه أوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوى بإنعامه من يئِسَ من أسقامه الدوا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله شهادةً نرجو بها الفوزَ والهُدى، والنجاةَ من الخيبة والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما انفَلَقَ صبحٌ ثم بدَا، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد فاز من اتقى، وخسِر من قادَه الهوى، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].

أيها المسلمون:
الأيام دائرة، والمنايا حاضرة، وما الناسُ إلا ظاعنٌ أو مُودِّعٌ، ومُستلَبٌ مُستعجَلٌ أو مُؤجَّلُ، مواعِظُ قارعة، وحوادِثُ زاجِرة، ومصارِعُ مُوقِظَة، وخُطوبٌ مُنذِرة، وفتنٌ وتقلُّبات تُوجِبُ التفكُّر والتذكُّر والعِظَة والعِبرة؛ فأين أهلُ الاتِّعاظِ والادِّكار، والاعتبار والانزِجار؟!
أبدًا تُفهِّمُنا الخُطوبُ كُرورَها
ونعودُ في عمَهٍ كمن لا يفهمُ
تلقَى مسامِعَنا العظاةُ كأنما
في الظِّّلِّ يركُمُ وعظَه من يركُمُ


وكأن الموتَ على غيرنا كُتِب، وكأن الحق على غيرنا وجَب، نسينا واعِظَة الأيام، وغفَلنا عن حوادث الزمان؛ فيا عجبًا من مُضغة لحمٍ أقسى من الجبال، لا تلينُ مع كثرة العِظات، ولا تخشعُ مع ترادُف الآيات، ولا تزيدُها الحوادِثُ إلا نفورًا ودُبورًا وغرورًا.
لأعجبَنَّ وأنَّى ينقضِي عجبي
الناسُ في غفلةٍ والموتُ في سَنَنِ

﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1- 3].

أيها المسلمون:
كم شاهَدنا من جُثثٍ في بِقاع القاع قد صُفَّت، وكم عاينَّا من مواعِم في مدارِج الأكفان قد لُفَّت، وكم أبصرنا من عرائس إلى الألحاد قد زُفَّت، فمال العيون ناظرةٌ ولا تُبصِر، ومال القلوب قاسيةٌ ولا تُفكِّر، ومال النفوس ناسيةٌ ولا تذكُر؟!

أغراها إنظارُها وإمهالُها، أم بشَّرها بالنجاة أعمالُها، أم لم يتحقَّق عندها من الدنيا زوالُها، أم شمَلَت الغفلةُ فاستحكَمَ على القلوب أقفالُها؟!

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16].
إذا كنتَ قد أيقنتَ بالموتِ والفنا
وبالبعثِ عما بعدَه كيف تغفُلُ؟!
إذا أنتَ لم ترحَل بزادٍ من التُّقَى
أبِن لي أبي يوم الجزاء كيف تفعلُ؟!
تذكَّر وفكِّر بالذي أنت صائرٌ
إليه غدًا إن كنتَ ممن يُفكِّرُ
فلا بُدَّ يومًا أن تصيرَ لحُفرةٍ
بأثنائها تُطوَى إلى يوم تُنشَرُ
يا من طويتَ في طلب الخوادِعِ أدهُرا
يا من أبيتَ أن تُفيقَ وتذكُرا
يا من فسحَ لنفسه المُدَّة، ومدَّ لها المُهلَة؛ أقصِر فالأمر ليس إليك، وعلَمُ الموت بين يديك.

أنسيتَ أننا بشر، يلُفُّ ناقَ درّ، ونحن في سفَر، نمضي إلى حُفَر.

الموتُ يشملُنا، والحشرُ يجمعُنا، فحتَّى ما لا ترعوِي وتنتهي، حتى ما سمعُك لا يعِي لمُذكِّرٍ، وصميمُ قلبك لا يلينُ لعاذِلِ.

ألم يأنِ أن تخشَع وأين التهجُّدُ؟ أفي سنةٍ كنا أم القلبُ جلمَدُ؟ تيقَّظ أخي واحذر وإياكَ ترقُدُ، أترقدُ يا مغرور والنارُ تُوقَدُ، فلا حرُّها يُطفَى ولا الجمرُ يخمُدُ.

فطُوبَى لمن قبِلَ النَّذارَة، ونفعَتْه التذكِرة، وأيقَظَته العِظَة، فجدَّ ولم يغفُل، وشمَّرَ ولم يغتَرّ، وبادَرَ ولم يُسوِّف، وأخذَ الحَيطَةَ والحَذَر، وهجرَ إخوان السوء، ولازمَ أهلَ الرِّقَّة والخشية والعلم وأنابَ وتاب، ويا خسارةَ من حجبَه هواه، وأغواه شيطانُه وأردَاه، فما ازدادَ بالحوادث إلا غفلة، وما ازداد بالعِظات إلا قسوة، ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7]، ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [الأعلى: 10، 11].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والعِظات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمدُه وقد أسبَغَ البرَّ الجزيل، وأسبلَ السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربِّه، ورجا العفوَ والغُفرانَ لذنبه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه سعادةٌ للأعمار، وحجابٌ من النار، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

أيها المسلمون:
الدهرُ ذو عبر يجري بها قدَر، مُلكٌ يُنزَع، وعافيةٌ تُرفَع، وبلاءٌ يقَع، ومن الناسِ من ليس له من الأخبار إلا إيرادَها، ولا من الحوادِث إلا سَردها، ولا من الوقائع إلا ذِكرَها، فاعتبِروا يا أولي الأبصار بالحوادِث والأخبار، وما يكون في النواحِي والأمصار؛ فكلُّ مخلوقٍ للفَناء، وكلُّ مُلكٍ فإلى انتهاء، ولا يدومُ غيرُ ملكِ الباري - سبحانه - من ملكٍ قهَّارِ، مُنفردٌ بالعزِّ والبقاء، وما سِواه فإلى انقضاءِ.

أين من كانوا معنا في الزمان الماضي؟ أفنَتهم المَنون القواضِي، أين المرازِبَةُ الجَحاجِحةُ البَطارِقةُ الأُوَل، وذوو التفاضُلِ في المجالس والترفُّلِ في الحُلَل، وذوو المنابرِ والأسِرَّةِ والمحاضِرِ والخَوَل، وذوو المشاهِد في الوغَى وذو المكايِد والحِيَل؟ سفَلَت بهم لُجَج المنيَّة كلهم فيمن سفَل، لم يبقَ منهم بعدَهم إلا حديثٌ أو مَثَل.

فيا لها من عبرةٍ لمن اعتبَر، وذكرى لمن ادَّكَر؛ فمن أخذَته تلك الحوادِثُ إلى الإنابة والعبادة والطاعة فذاك الذي اعتبَر، وعلِمَ الخبَر، وصحَّ عنده النَّظَر، وفازَ بالخير والظَّفَر.

ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمِعون القولَ فيتَّبِعون أحسنَه.

وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك المُوحِّدين، ودمِّر الطغاة والظلَمة والمُعتدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها، ووفِّق قادتَها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كُن لإخواننا في سورية من كل سوءٍ ومكروهٍ وفتنة، اللهم احفَظهم من كل سوءٍ ومكروهٍ وفتنةٍ يا كريم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم، وأمنَهم واستقرارَهم ووحدتَهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بالظلَمة الطُّغاة، اللهم عليك بالظلَمة الطُّغاة، اللهم عليك بالظلَمة الطُّغاة، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أرِنا فيهم عجائبَ قُدرتك، اللهم أرِنا فيهم عجائبَ قُدرتك، اللهم اقتُلهم بسلاحهم، اللهم اقتُلهم بسلاحهم، وأحرِقهم بنارهم يا قويُّ يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم قاتلِ الكفَةَ الذين يصدُّون عن سبيلك، ويُعادُون أولياءَك، واجعل عليهم عذابَك ورِجزَك إله الحق يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادرين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرةً وآيةً.
اللهم لا تُشمِت بنا أحدًا، ولا تجعل لكافرٍ علينا يدًا.
اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وعافِ مُبتلانا، وعافِ مُبتلانا، وعافِ بمنِّك وجودِك مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.

عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الفساد الإداري والمالي

0 التعليقات
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله) ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [لنساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

يقول ربنا تبارك وتعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30] فالآدميون خلقهم الله لخلافته في أرضه لإقامة أحكامه ودينه وشرعه فتارة يظهر الفساد على أيديهم كما ذكرت الملائكة وتارة يظهر الخير فيظهر الخير إذا تولى الولاية القوي الأمين فكان الأنبياء عليهم الصلاة يتولون الولايات ويحكمون البلاد ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26] وطلب الولاية الصديق يوسف عليه السلام ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55] وتولى النبي - صلى الله عليه وسلم - إدارة الدولة المسلمة في المدينة.

فالولايات من أعظم القرب لمن توفر فيه ركنا الولاية القوة والأمانة ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26] فالقوي هو من لديه خبرة وعلم فيحسن إدارة ما وكل إليه والأمين هو الذي يضع الأمور في موضعها بحثا عن المصلحة فالحاكم العادل بالمنزلة الرفيعة عند ربه فعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " رواه مسلم.

وكان يتولى الأمة في الخلافة الراشدة خيار الأمة فلم يعرف الفساد الإداري والمالي في خلافتهم.

فعناية الإسلام منصبة على عدم حصول الفساد ووصول الفاسدين لإدارة الأمة فالمسئولون في الحكومة المسلمة هم جزء من المجتمع المسلم الذي عني الإسلام بتربيتهم وتهذيبهم فالإسلام يجعل داخل كل مسلم رقيباً منه فحض على مراقبة الخالق كل وقت ففي حديث عمر - رضي الله عنه- في الصحيحين عرف الإحسان « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » فأنى يتطرق الفساد إلى مسئول يستشعر مراقبة ربه كل لحظة وبين فضيلة من يستشعر هذه المراقبة ﴿ نَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ومنهم الإِمَامُ الْعَادِلُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" رواه البخاري ومسلم.

وحتى لا يقدم على الولاية غير المؤهلين حذر الإسلام من التطلع للرئاسة وبين العاقبة الأخروية للرئاسة لمن لم يكن مؤهلا لها فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنكم سَتَحْرِصُونَ على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " رواه البخاري (7148) فالولاية الدنيوية نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمالِ ونفاذِ الكلمة وتحصيلِ اللذات وبئست الفاطمة عند ترك الوظيفة لما يترتب عليها من التبعات في الدنيا والآخرة لمن تسورها بغير حق.

من يتطلع للرئاسة لا يولى لأن غالب المتطلعين لها يرونها مغنما ووجاهة لا أمانة وحملا فعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِى عَمِّى فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ « إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّى عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ » رواه البخاري (7149) ومسلم (1733).

وحينما يتقدم غير المؤهل طالبا للولاية يمنع ويصرح له بعدم صلاحيته فمصلحة الأمة مقدمة على المصالح الخاصة فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا" رواه مسلم (1825) فلم يجامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر - رضي الله عنه -  حينما لم يكن صالحا للولاية على الرغم من زهده وديانته ولم يعرف عن أبي بكر وعمر تولية أحد من أقاربهم لا في ولاية العهد ولا غيرها فمن له ولاية يبر أولاده وأقاربه فيما يملكه لا على حساب المسلمين. وحينما يكون التعيين في ولايات المسلمين لأجل القرابة يشتد نكير السلف قال ابن حزم في الملل والنحل (4/129-131) أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته.. ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي.

وحينما يعين شخص ثم يتبين عدم صلاحيته للولاية يعزل مهما كان قربه من الحاكم فصح عن عثمان -رضي الله عنه- في قصة الوليد بن عقبة وكان أميراً على الكوفة لعثمان فعزله بسبب شربه الخمر وكان أخا له من أمه فلم تكن قرابته لأمير المؤمنين شافعة له في بقائه في الأمارة فمن خان الأمانة في خاصة نفسه سيخون الأمانة التي للمسلمين.

الخطبة الثانية
الفساد الإداري سوس ينخر في الأمة ومقدراتها وهو بوابة الفساد المالي فعالج الإسلام الفساد المالي بإغلاق الأبواب التي توصل له.

فحرم على الموظف سواء كان في القطاع الخاص أو العام أن يأخذ هدية بسبب عمله سدا للذريعة فربما كانت هذه الهدية رشوة ليتوصل بها المهدي لأمر لا يحل عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي أَفَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلأعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ " رواه البخاري و مسلم.

فمن أخذ المال بغير حق فضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].

فمن يتولى ولاية على المسلمين يحاسب وينظر في ثروته من أين أكتسبها فيقال له من أين لك هذا كما حاسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن اللتبية حتى الحاكم نفسه تحاسبه الأمة التي وكلته في إدارة شؤونها ولم يأنف النبي - صلى الله عليه وسلم - على من سأله من أصحابه -رضي الله عنهم-  لماذا أعطيت فلانا وتركت فلانا وهذا الصديق -رضي الله عنه- حينما بايعه المسلمون قال لهم في ما ثبت عنه في خطبته المشهورة: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. فأمرهم بتقويمه إذا أخطأ وحينما يترك المسئول وظيفته ينظر في ثروته هل أكتسبها بحق أو باطل فالزائد عن كسبه المباح يرد إلى بيت المسلمين.

فعن عائشة - رضى الله عنها - قالت: قال أبو بكر - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الخلافة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي... قالت عائشة - رضى الله عنها -: فلما مات نظرنا، فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه وناضح كان يسقي عليه قالت: فبعثنا بهما إلى عمر - رضي الله عنه -، قالت: فأخبرت، أن عمر - رضي الله عنه - بكى وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبا شديدا. رواه ابن أبي شيبة (7/15) وغيره بإسناد صحيح فهذا إقرار ذمة للحاكم طبقه الصديق حينما كان القيصر يملك الدنيا وما عليها ولا يتجرأ أحد من شعبه أن يحاسبه.

وحين يعين الرجل القوي الأمين في إدارة شؤون المسلمين تكفى حاجته حتى لا يتطلع إلى ما في يد غيره و حتى لا يلجأ تحت ضغط الحاجة إلى الرشوة أو غيرها فعن الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا» رواه الحاكم (1/563) وصححه فغنى الموظف من أسباب عدم خيانته.

لا تصلح الولايات إلا بأمرين بتولية الأصلح فالأصلح والمحاسبة فحتى الصالح يحتاج إلى جهة تحاسبه.

ختاما إخوتي لسنا بحاجة إلى استلهام نموذج شرقي أو غربي فعندنا في ديننا وتاريخنا الإسلامي ما أثبت صلاحه في منع الفساد قبل وقوعه فضلا عن اجتثاثه.

دعاء

0 التعليقات
الـفـتـاهْ تـظـن إنـهـا لـن تـتـزوج،

الـمـرأهْ تـظـن إنـهـا لـن تـنـجـب،

الـشاب يـظـن إنـه سـيـواجـه الـفـقـر و الـبـطـالـهْ،

الـعـجـوز يـظـن إنـه سـيـواجـه الـأمــراض،

الـطـالـب يـظـن إنـه لـن يـنـجـح،

كـل هـذهِ الـظـنـون تـأتـيـكـمـ مـن الـشـيـطــان . .

" الـشـيـطـان يـعـدكـمـ الـفـقـر و يـأمـر بـالـفـحـشـاء و الله يـعـدكـمـ مـغـفـرهْ مـنـه و فـضـلآ "

فـ لـنـثـق و نـحـسـن الـظـن بـالله

اللهمـ أرزقـنـا حـسـن الـظـن بـك و الـتـوكـل عـلـيـك

دعاء

0 التعليقات

الـفـتـاهْ تـظـن إنـهـا لـن تـتـزوج،

الـمـرأهْ تـظـن إنـهـا لـن تـنـجـب،

الـشاب يـظـن إنـه سـيـواجـه الـفـقـر و الـبـطـالـهْ،

الـعـجـوز يـظـن إنـه سـيـواجـه الـأمــراض،

الـطـالـب يـظـن إنـه لـن يـنـجـح،

كـل هـذهِ الـظـنـون تـأتـيـكـمـ مـن الـشـيـطــان . .

" الـشـيـطـان يـعـدكـمـ الـفـقـر و يـأمـر بـالـفـحـشـاء و الله يـعـدكـمـ مـغـفـرهْ مـنـه و فـضـلآ "

فـ لـنـثـق و نـحـسـن الـظـن بـالله

اللهمـ أرزقـنـا حـسـن الـظـن بـك و الـتـوكـل عـلـيـك

ادعية واذكار,

0 التعليقات

تدبر الأمثال في القرآن الكريم

0 التعليقات
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الأمثال في القرآن الكريم"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب تدبُّر الأمثال في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى ضربَها لنا للعِبرة والعِظَة، وذكَّر ببعض الأمثلة من القرآن والوقوف عليها وتدبُّر ما فيها.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزَّة والجبروت والجلال، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكمُ وإليه المردُّ والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، طيِّبُ الخِصال، صادقُ الفِعال، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه والآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والاعتصام بحبله المتين، ونهجِه القويم، وإياكم والكسلَ والخُذلان؛ فما نالَ العُلا كسلان، ولا وردَ الصفوة خُذلان، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90].

أيها الناس:
لله ما أجملَ هذا الشهر المبارك وما أروعه، لله ما أصفاه وأعذَبَه، له حلاوةٌ كحلاوة الشهد وهو يُكرَّر، وله أُنسٌ وطُمأنينةٌ وسكِينة تجعل من لامسَها يتمنَّى أن لو كانت السنةُ كلُّها رمضان.

نعم، عباد الله:
لقد خُضنا خمسة أسداس هذا الشهر المبارك، فكأن شيئًا لم يكن إذا انقضى، وما مضى مما مضى فقد مضى، لقد مرَّت أيامُه كلمحِ البصر، وتناقَصَت لياليه وكأنها أوراقُ الخريف عصَفَت بها الريحُ حثيثةً، فصارت أثرًا بعد ذات وخبرًا بعد كان.

لقد أبحرنا جميعًا في هذا الشهر المبارك مع أطهر الكلام وأصدقه، هو عزٌّ لا يُهزَم أنصارُه، ومنهاجٌ لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان وينبوعُ العلم، هو ربيعُ القلوب والدواء الذي ليس بعده دواء، فيه نبأُ من قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وفضلُ ما بيننا، يرفع الله به أقوامًا ويضعُ آخرين، ومن تمسَّك به فقد هُدِي إلى صراطٍ مستقيم، ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83].
هو الكتابُ الذي من قامَ يقرؤه
كأنما خاطَبَ الرحمنَ بالكلِمِ

إننا - عباد الله - لن نجِد قصصًا ولا أمثالاً ولا أخبارًا أصدق منه، ولن نجد أكثر تشويقًا ولا أخذًا للألباب من كلام الباري - جل شأنُه - الذي نزل به الروحُ الأمين على قلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المُنذرين بلسانٍ عربي مبين، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82].

وشهر رمضان المبارك خيرُ فرصةٍ سانحةٍ لأن يعيش المؤمن هذه الأجواء، ويُبحِر بفكره ولُبِّه في أمثاله وعجائبه، ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء: 106 - 108].

ولو دقَّقنا النظر - عباد الله - في الأمثال المضروبة في القرآن لسمِعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، فالله تعالى يقول: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58].

وقد جاء في القرآن ثلاثةٌ وأربعون مثلاً لا يتدبَّرها ولا يستطعِمُ بلاغتَها إلا من له عقلٌ حيٌّ ولُبٌّ يلمَح، قال أحد السلف: "كنتُ إذا قرأتُ مثلاً من القرآن فلم أتدبَّره بكيتُ على نفسي؛ لأن الله يقول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43]".

لقد ضرب الله لنا في القرآن أمثالاً متنوعة لم تكن قاصرةً على خلقٍ دون آخر؛ فقد يضربُ الله المثلَ في نباتٍ؛ كقوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: 24]، وقد يضرب الله المثلَ بحيوانٍ أعجم؛ كما ذكر عن الذي آتاه آياته فانسلَخَ منها، فأتبعَه الشيطان فكان من الغاوين، وذلك كقوله: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176]، وقد يضربُ الله مثلاً بالإنسان، كما في قوله: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76].

فلله ما أعظم هذه الأمثال وما أعظم ما تحويه من نهايةٍ في العِظَة والعِبرة، ونهايةٍ في البلاغة وإيجاز اللفظ وحُسن التشبيه وقوة الكناية، ولقد صدقَ الله - سبحانه - إذ يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23].

وإن تعجَبوا - عباد الله -، فعجَبٌ حينما يضربُ الله مثلاً لعباده بأحقر مخلوقاته وأصغرها؛ فقد قال تعالى عن العنكبوت: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 41]، فهذه حال كل من تعلَّق بغير الله أو خافَ غيرَ الله أو رجا غيرَه أو أرضى الناسَ بسخط الله؛ فمن فقد اللهَ فماذا عساه أن يجِد؟! ومن وجدَ اللهَ فما عساه أن يفقِد؟! ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [الأنعام: 14]، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تعلَّق شيئًا وُكِل إليه».

فيا خيبةَ من تعلَّق بغير الله في كافة شؤونه!

وقد ضرب الله لنا مثلاً أيضًا بالبعوضة الصغيرة التي لا نأبَهُ لها ولا نُعيرُها اهتمامًا إلا في قتلها، تلكم البعوضة التي قال الله عنها: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة: 26]، ألا فسبحان الله هلاَّ سألنا أنفسَنا: لماذا يضربُ الله لنا مثلاً بالبعوضة؟! نعم، البعوضة التي لا يعرفُ من نزلت عليهم هذه الآية منها إلا صورتَها، فكيف بنا ونحن في زمنٍ كشفَ في البعوضة قلبَها ودماغَها وعيونَها وعروقَها، فهذه المخلوقةُ الصغيرة لا تُحقَر ولا تُزدَرى، فهي التي قيل في مثلها:
لا تحقِرنَّ صغيرًا في مُخاصمةٍ
إن البعوضةَ تُدمِي مُقلةَ الأسدِ
وإن العجبَ ليزداد - عباد الله - حينما يضربُ الله لنا مثلاً في الذُّباب، ذلكم المخلوق الذي يأنَفُ منه العموم تأفُّفًا وازدراءً، ويخُصُّه الله بالحضِّ على الإنصات والاستماع إليه بخلاف غيره من الأمثال، فيقول - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 73، 74].

فيا لله العجَب؛ كيف يضربُ الله مثلاً بهذه المخلوق الصغير جدًّا، المُحتقَر لدى أهل الدنيا، ولو علِموا ما فيه من الأسرار لأدركوا عظمةَ الباري - جل شأنُه -، ولأيقَنوا أنهم لا يُحيطون به علمًا، فإنه - سبحانه - قد يجعل أسرارًا عظيمة في أضعف مخلوقاته.

فلله كم أدهشَ هذا المخلوق ألبابَ العلماء والأطباء والصيادلة وذوي المعامل والمُختبرات، ولله كم أقاموا فيه من التجارب، وتوصَّلوا إليه من الإعجاز ما يُذهِلُ الألباب ويُحدِقُ بالأبصار، ولا غروَ حينما يُسلِمُ بعضُهم عندما يرى عظمةَ الله في خلق الذُّباب، وكيف أن من أسراره قوة الإحساس في التخلُّص من الضرب بحيث يصعُب صيدُه لما خلقَ الله فيه من هذه الخاصية العجيبة، وكيف أنه في الوقت نفسه يحمِلُ داءً ودواءً بين جناحيه؛ حيث صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق في قوله: «إذا وقع الذُّباب في إناءِ أحدكم فليغمِسْهُ كلَّه ثم ليطرَحْه؛ فإن في أحد جناحَيْه الداء وفي الآخر شفاء».

فالله أكبر! ما أعظم مثل الباري - سبحانه -، والله أكبر! لا نُحصِي ثناءً عليه وتمجيدًا له وهو كما أثنى على نفسه.

وإذا كان هذا هو خلقَ الذُّباب؛ فكيف بخلق الناس، وإذا كان خلقُ الناس هو ما نعلمُه ونُشاهِدُه وما غابَ عنا كل أسراره؛ فكيف بخلق السماوات والأرض، فلا إله إلا الله، آمنَّا بما أنزل واتَّبَعنا الرسولَ، فاللهم اكتُبنا مع الشاهدين، ولقد صدق الله: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.


الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله ضربَ الأمثالَ للاعتبار والعِظة، وقد قال الماوردي - رحمه الله -: "من أعظم علمِ القرآن علمُ أمثاله، والناس في غفلةٍ عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم المُمثَّلات".

وذلك - عباد الله - لما في الأمثال من تبكيتٍ للخصم الشديد الخصومة، وقمعٍ لضراوة الجامح الآبِي؛ فإنه تُؤثِّر في القلوب ما لا يُؤثِّره وصفُ الشيء في نفسه.

ولو تأمَّلنا - عباد الله - ضربَ الله المثل في الذباب وما أتبعَه من قوله: ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج: 74] لأدركنا سُحق الهوَّة بيننا وبين استحضار عظمة الله في جميع شؤوننا؛ فهل نُدرِك قولاً وعملاً ما خلقَنا الله لأجله؟ وهل نُدرِك حقًّا عظمةَ الله وقدرَه حقَّ قدره؟ وهل نستشعِرُ خضوعَ جميع المخلوقات له وحده - سبحانه - لا شريك له: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93].

لقد أدركَت البهائمُ ما خُلِقت له؛ فهل نُدرِك نحن لماذا خُلِقنا؟!
صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصبح ثم أقبل على الناس، فقال: «بيْنا رجلٌ يسوقُ بقرةً إذ ركِبَها، فضربَها، فقالت: إنا لم نُخلَق لهذا، إنما خُلِقنا للحَرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرةٌ تكلَّم»، فقال: «فإني أُؤمِنُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعمر .. الحديث»؛ رواه البخاري ومسلم، واللفظُ للبخاري.

فانظروا - يا رعاكم الله - كيف أدركَت هذه البقرة ما خُلِقت لأجله وهي حيوانٌ أعجم؛ فهل يُدرِكُ بنو آدم لماذا خُلِقوا، وهل قدَروا اللهَ حقَّ قدره؟! فمن أنطق هذه البقرة غيرُ الباري - جل شأنُه -؟! ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21].

وإن تعجَبوا - عباد الله - فعجبٌ ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" في قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيرويها أبو سعيد الخُدري يقول: عدَا الذئبُ على شاةٍ فأخذها، فطلبَه الراعي فانتزَعَها منه، فأقعَى الذئبُ على ذنَبِه قال: ألا تتقِي الله! تنزعُ مني رزقًا ساقَهُ الله إليَّ؟! فقال الأعرابي: يا عجبي! ذئبٌ مُقعٍ على ذنَبِه يُكلِّمني كلامَ الإنس، فقال الذئب: ألا أُخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد - صلى الله عليه وسلم - بيثرب يُخبِرُ الناسَ بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوقُ غنمَه حتى دخل المدينة، وأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث.

سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ذئبٌ يُخبِرُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدلُّ عليه وعلى دعوته؛ فماذا صنعنا - عباد الله -؟ ذئبٌ قدَرَ اللهَ حقَّ قدره؛ فأين نحن من هذا؟

لقد عُرِضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحمِلنها من باب قدرِ الله حقَّ قدره، فلم يحمِلها إلا هذا الإنسانُ الظَّلوم الجَهول، كل الخلائق قدَرَت الله حقَّ قدره إلا بني آدم.

لقد ذكر - سبحانه - أنه يسجُد له من في السماوات ومن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ، ولم يقل: والناس، وإنما قال: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: 18]،﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].

ولقد صدق الله - ومن أصدق من الله قيلاً -: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].

عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبرٌ من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! إنا نجِدُ أن الله يجعل السماوات على إصبَع، والماء والثَّرَى على إصبَع، وسائرَ الخلق على إصبَع، فيقول: أنا الملك، فضحِك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدَت نواجِذه - تصديقًا لقول الحبر -، ثم قرأ: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67].

فمن أنت يا ابن آدم؟ ألم تُخلَق من ماءٍ مهين، ألست الفقير والله هو الغنيُّ الحميد، ألست الضعيفَ والله هو القويُّ العزيز؟ ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «لو كانت الدنيا تعدِلُ عند الله جناحَ بعوضة ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماء».

فما أهوننا على الله وهو القائل: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28]، نعم؛ ألا ما أهونَ الخلق على الله، قالها أبو الدرداء حين رأى دولة الأكاسِرة تهوِي على أقدام المسلمين فبكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: ما أهونَ الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.

ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله قد فرضَ عليكم صدقةَ الفطر على الذكر والأُنثى والحر والعبد والصغير والكبير، ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤدِّيها قبل خروجه لصلاة العيد، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يُؤدُّونها قبل العيد بيومٍ أو يومين.

فأخرِجوها - رحمكم الله - طيبةً بها نفوسكم، مُقتدين بنبيكم - صلى الله عليه وسلم -.
يا مَن يرى مدَّ البعوضِ جناحَها
في ظُلمةِ الليل البَهيم الألْيَلِ
ويرى نِياطَ عروقِها في نحرِها
والمُخَّ في تلك العِظامِ النُّحَّلِ
امنُن علينا بتوبةٍ تمحُو بها
ما كان منا في الزمانِ الأولِ

هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب : 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسمَ الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنفحَات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة : 201].

سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اقوال السلف

0 التعليقات

اعمال يوم الجمعة

0 التعليقات

مفاتيح التدبر

0 التعليقات

العزة

0 التعليقات
الحمد لله ذي العزة التي لا ترام، والملك الذي لا يضام، قيوم لا ينام، وعزيز ذو انتقام، وأشهد ألا إله إلا البر السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرة الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم أزكى سلام.

أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278].

أيها المؤمنون!
إن الشعور بالدونيّة والهزيمة النفسية شر هزيمة تُمْنى بها أمة؛ تفت عضدها، وتفلّ حدها، وتغيّب قُدَرَها، وتجرّئ عُداتها، ولا تقوم معه للحق قائمة. وذا ما يعارض إرادة العز لأمة الإسلام، وقدره الذي ارتضاه الله لها بقوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]؛ مهما بلغ قرحها وغار جرحها واستشرس عدوها ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]؛ حتى غدا سنام العز لأهل الإيمان شعاراً ودثاراً، يصف ذلك الحالَ إبراهيمُ النخعي بقوله: " كَانُوا يكْرهُونَ للْمُؤْمِنين أَن يُستذلوا؛ فيجترئَ عَلَيْهِمُ الْفُسَّاق ".

العزة حقيقة متى استقرت في القلب قوّته؛ فاستعلى بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، وهي منزلة شريفة تنشأ عن معرفة المرء بقدر نفسه وإكرامها عن الضراعة للأغراض والأعراض الدنية؛ فيترفّع بها عما يُلحِقه غضاضةً. وليس ذلك من الكبر في شيء؛ إذ الكبر جهل بقدر النفس وإنزال لها فوق منزلتها؛ ولهذا لما قيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما أعظمك في نفسك! فقال: لست بعظيم، ولكني عزيز.

أيها المسلمون!
لقد أكّد الله - سبحانه - استئثاره بالعزة جميعاً في ثلاث آيات من كتابه العزيز؛ فلن يجدها إلا من يتولاه، ويطلبها عنده، ويرتكن إلى حماه، يقول الله - تعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]، قال أبو بكر الشبلي: " من اعتز بذي العز فذو العز له عَزَّ "، وقال رجل للحسن: إني أريد السِّند؛ فأوصني، قال: أعزَّ أمرَ الله حيث ما كنت يعزَّك الله، قال: فلقد كنت بالسند وما بها أحد أعزُّ مني".
وَإِذَا تَذَلَّلَتِ الرِّقَابُ تَخَشُّعًا
مِنَّا إِلَيْكَ فَعِزُّهَا فِي ذُلِّهَا

ولما كانت العزة لله، وهو ربها؛ صار سبيلها مقطوعاً إلا من سبيله؛ فلا تطلب إلا منه. وأعظم سبيل لتحصيلها: الإيمان بالله - جل وعلا -، وبقدر ما حقق العبد من الإيمان يكون حظه من العزة، كما قال الله - سبحانه -: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]؛ إذ بالإيمان تكون ولاية الله التي لا يذل بها متمسّك ، ولا يعز بتركها عادٍ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ " رواه أبو داود وصححه العراقي. قال طارق بن شهاب - رضي الله عنه -: " خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟! تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟! مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ عُمَرُ: «أَوَّهْ! لو لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ لجَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ؛ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ» " رواه الحاكم وصححه على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي. ومن أجلى حقائق الإيمان التي تكمن فيها العزة حسن الطاعة والاستجابة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " جُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي " رواه أحمد وصححه الألباني، ويقول سفيان الثوري: "كَانَ يُقَالُ: مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلا عَشِيرَةٍ، وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ؛ فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ ". وأنى لمن كبّر الله حال أذانه وصلاته ونسكه ونحره وتعجّبه، وكان ذلك التكبير أول ما طرق سمعه حين ولادته - أن يذل لغيره!
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

يقول الحسن البصري: " مَنْ تَعَزَّزَ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْرَثَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الذِّلَّةَ، وَلا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ "، ويقول عن المنعَّمين الفجرة: " إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ". ألا وإن من أجل الطاعات التي رُتِّب على فعلها تحققُ العزة وعلى تركها الذلة الجهادَ في سبيل الله، يقول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذا تبايعتم بالعينة (نوع من الربا)، وأخذتم أَذْنَاب الْبَقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الْجِهَاد؛ سلّط الله عَلَيْكُم ذلاً لَا يَنْزعهُ حَتَّى ترجعوا إِلَى دينكُمْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وصححه الألباني. والجهاد طريق نخوة المؤمنين المستضعفين ونجدتهم، وَمن كَانَت النجدة طبعا لَهُ حدثت فِيهِ عزة، فكيف إن كان الباعث لها ديناً.

عباد الله!
والاستغناء عن الناس من جوادّ العزة؛ فإنما تُذِلُّ الناسَ شهواتُهم ورغباتُهم، ومخاوفُهم ومطامُعهم، أوصى جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا محمد، شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس " رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. قال حكيم: " مَنْ غَرَسَ الزُّهْدَ اجْتَنَى العِزَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الحِرْصَ اجْتَنَى الذِّلَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الطَّمَعَ اجْتَنَى الخِزْيَ ". قدم البصرةَ أعرابيٌّ فقال لخالد بن صفوان: أخبرني عن سيد هذا المصر، قال: هو الحسن بن أبي الحسن (البصري)، قال: عربي أم مولي؟ قال: مولى، قال: وبم سادهم؟ قال: احتاجوا إليه في دينهم، واستغنى عن دنياهم، فقال الأعرابي: كفى بهذا سؤدداً! قال عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: « لَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى، وَرُزِقَ بِالْوَرَعِ، أَنْ يَذِلَّ لِصَاحِبِ الدُّنْيَا ».
أرى الناس من دانهم هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس أُكرِما

أيها الإخوة في الله!
والعفو المحمود عن المسيء من سبل نيل العزة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً " رواه مسلم، وظاهر الحديث: أَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ وَزَادَ عِزُّهُ وَإِكْرَامُهُ، قال إبراهيم النخعي واصفاً حال السلف: « كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا ». والصبر والثبات طريق للظفر بحلة العز، قال الله - تعالى -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. ومن أجل سبل العزة العياذ بالله من وصم الذلة؛ فقد كان ذاك دعاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الغالب، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "اللهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِك مِن الفَقر والقِلة والذِّلة، وأَعوذُ بِك أنْ أَظلِم أَو أُظلَم " رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله....

أيها المؤمنون!
بالعزة عيش الكرامة، وقناعة السرور، ورضا الميسور، ونيل الحقوق، وإباء الاهتضام، والسمو عن الدنايا، والثبات على راسخ المبادئ، والحدب على المؤمنين، وهيب العِدى، والحمل على حسن التربية والاقتداء، والنصر على النفس الهلوع المنوع، والظفر بمحبة الله خير من ذلك كله. غير أن العزة لا تحمل المؤمن على تحمّل ما لا يطيق من البلاء، والعاقل خصيم نفسه؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه "، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء ما لا يطيق " رواه الترمذي وقال: حسن غريب وهو في الصحيحة.

وبعد - معشر المؤمنين -، دونكم مهيع العز الشامخ ومعقد لوائه الأشم؛ فتوشحوا به، وارفعوا رايته، واسلكوا سبله، وربّوا على منهجه الأبيّ أهلَ بيوتكم ومن ولّاكم الله مسؤوليته؛ فالمرء على ما اعتاد، والأمةُ اليومَ أحوجُ ما تكون إلى ذلك، وقد تكالب عليها العداة، وانبهر الكثير بتفوق الكفرة، وتبدّت صور الانهزامية، وتباينت سبل الاعتزاز، وبوارق الأمل لاحت بالفجر الصادق المبدّد لحنادس الظُلَم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الحض على طلب الرزق وتعاطي أسبابه

0 التعليقات
يا أيها الناس، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله، والسعي في رضاه، والشكر له تعالى على سابغ نعماه، وأن يتوبَ كلُّ واحدٍ منا مما اقترَفه وجناه، فتِلْكُم الخِصال جماع أسباب السعادة، ومُوجبات الحُسنى والزيادة، وجالبات الرزق المبارك وكريم الإفادة.

عباد الله:
طلب الرزق فِطرةٌ فطَر الله - تبارك وتعالى - عليها الخَلق، ولقد يسَّر الله - سبحانه وتعالى - وكثَّر أسباب الرزق، وحثَّ - سبحانه وتعالى - على الْتِماسها وتقواه فيها بقوله الحق: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وقوله - سبحانه -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].

وقال - جل ذكره -: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32].

وفي المسند عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نِعم المال الصالح للرجل الصالح))، وقال - صلى الله عليه وسلم-: ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهْر غِنى)).

ولقد مرَّ رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جلده ونشاطه، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كان خرَج يسعى على ولدِه صغارًا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوَين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرَج يسعى على نفسه يُعِفُّها، فهو في سبيل الله)).

أيها المسلمون:
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يا أيها الناس، كُتِب عليكم أن يأخذ أحدكم ماله، فيبتغي به من فضْل الله - عز وجل - فإن فيه العبادة والتصديق، وايْم الله، لأنْ أموتَ في شعبتي رحلي وأنا أبتغي بمالي في الأرض من فضْل الله، أحبُّ إليّ من أن أموت على فراشي"، وقال عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وهو أحد العشرة المُبشرين بالجنة: "يا حبذا المال، أصونُ به عرضي، وأتقرَّب به إلى ربي".

معشر المسلمين:
وإذا كان الله - تبارك وتعالى - قد أمَر عباده بالابتغاء من فضْله، وتعاطي أسباب رزقه، ومتنوّع فضله؛ في البيع والشراء، والإجارة والكِراء، والوظائف العامة، وعند المؤسسات الخاصة، وإتقان الصنائع والمِهَن، وأداء الأمانة، والتحقُّق بالنصح وإتقان العمل، والْتِماس فضْل الله وما قسَم لعباده في الاتِّجار والإيجار، وما أودَع من رزقه من القِفار، وأجواف البحار، والصَّفْق في الأسواق، والشركات التي يحصل معها الصِّدق والبيان بعد الاتفاق، فقد قرَّر لهم - سبحانه - حقيقة يقينية من أصول العقائد الحقة، وهي أنه وحْده - سبحانه - هو الرزاق، فلا رازق غيره، كما لا ربَّ سواه، فالرزق كله عنده، وحظُّ العبد منه ما قسَمه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، وقال - سبحانه -: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ [الشورى: 19]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22].

فسمَّى - سبحانه - نفسه الرزاق، وتمدَّح بالرزق، وجعَل ذلك من صفاته العَليَّة، وأفضاله الجليَّة، وأفعاله الحكيمة التي يستحق - سبحانه - الثناء عليها من كلِّ وجه وبكلِّ اعتبار، ويستحق التوحيد والشكر عليها من الأخيار والفُجار، فهو - سبحانه - الذي يُيسِّر الأسباب، ويَفتح للرزق الأبواب، ولقد أثنى الله - تبارك وتعالى - على نفسه بالغنى المُطلق عن جميع الخلْق، وحاجة الخلق إليه، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].

وفي الحديث القدسي الصحيح، يقول تعالى: ((يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعَمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسَوته، فاستكسُوني أَكسُكم...)) إلخ الحديث، وفيه: ((يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجِنكم، اجتمعوا في صعيدٍ واحد، فسألوني، فأَعطيت كلَّ واحد منكم مسألته، ما نقَص ذلك مما عندي شيئًا))، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إخباره عن ربه - تبارك وتعالى - على وجه الثناء عليه، وحثِّ العباد على ابتغاء الفضْل منه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((خزائنُ الله ملأَى، ويداه سحَّاء الليل والنهار، لا تَغيضها نفقة، أرأيتُم ما أنفَق منذ خلَق السمواتِ والأرض، فإنه لم يَنقص مما عنده إلا كما يَنقص المِخْيَط إذا أُدخل البحر))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليَسأل أحدكم حاجته، حتى شِسْعَ نَعْله إذا انقطع))؛ فإنه إن لم يُيسِّر الله، لَم يَتيسَّر.

أيها المؤمنون، ولقد أجمَعت رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - المُرسلة إلى كل أُمة، وكُتُب الله المُنزَّلة - على ابتغاء الرزق من الله، وعدم الْتِماسه أو انتظاره من أحد سواه، فالرزق عند الرب الحق، وليس عند أحدٍ من الخلق؛ كما قال إبراهيم - عليه السلام - لقومه: ﴿ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17].

وفي المأثور عن نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((إن رزق الله لا يَجرُّه حرص حريص، ولا تردُّه كراهية كاره، فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، ولا يَحمِلنَّكم استبطاءُ الرزق على أن تَطلبوه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته)).

معشر المؤمنين:
وكما أخبر - سبحانه - عباده أن أمْر الرزق عنده، وأن حظَّ العبد منه ما قسَمه، وحثَّ عباده على ابتغاء فضْله، والشكر له - فقد شرَع لهم وسائل كسْبه، وأباح لهم أسباب تحصيله، وأمرهم بتعاطيها، وابتغاء فضل الله تعالى فيها، وجعَل ذلك من كريم الطلب، ونفيس القُرب، ووعَدهم على ذلك جزيل الثواب، والرزقَ من غير حساب؛ هداية لأُولي الألباب، إلى خير الدنيا وحُسن المآب.

أيها المؤمنون:
وإذا كان دعاء الله تعالى وصِدق اللجأ إليه، وكمال الافتقار إليه، وتعاطي ما أباحه الله وشرَعه من الأسباب، مع حُسن الظن به سبحانه - في طليعة أسباب تحصيل واسع الفضل، وكريم الرزق من الحق، فإن للصلاة - فريضة ونافلة - أثرًا مباركًا في تيسير الرزق المعنوي والمادي وتعجيله؛ قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].

وفي سنن الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله تعالى: يا بن آدم، تفرَّغ لعبادتي، أمْلأ صدرك غنًى، وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل، ملأتُ صدرك شُغلاً، ولم أسدَّ فقرك))، وفي ابن ماجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن جعل الهموم همًّا واحدًا - همَّ المعاد - كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يُبالِ الله في أي أوْدِيتها هلَك)).

وفي ابن ماجه أيضًا عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعَل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرة نيَّته، جمَع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمة)).

فتوحيد الله تعالى في الباطن من النية والقصد والافتقار وحُسن الظن، وتوحيد الله في الظاهر بالمحافظة على الصلاة، وفعْل الطاعات، والتقوى بترْك المخالفات، والتوبة إلى الله تعالى من الخطيئات - هي جِماع أسباب الرزق، وموجبات الغنى عن الخَلق، وحسْبُكم قولُ الحق - عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2 - 3].

معشر المسلمين:
وكذلكم من أعظم أسباب الرزق: كثرة الاستغفار والإخلاص لله تعالى فيه؛ حيث يتواطأ القلب واللسان والجوارح على ترك الذنوب، والندم على فعْلها خَجلاً من علاَّم الغيوب، والإلحاح على الله تعالى بطلب مَحو إثمها، وصرْف عقوبتها دنيا وآخرة، وما أكرم المطلوب! قال تعالى على لسان نوح - عليه السلام -: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].

وفي المسند بإسناد حسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أكثَر من الاستغفار، جعَل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزَقه من حيث لا يَحتسب)).

أيها المؤمنون:
والتوكُّل على الله تعالى بتفويض الأمر إليه، وصِدق الاعتماد عليه، مع الثقة به، وتعاطي ما شرَعه الله - سبحانه - لتحصيل المطلوب واتِّقاء المرهوب - من أكرم الخصال التي يُستجلَب بها الرزق؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه.

وفي المسند وغيره بإسناد صحيح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرزَقكم كما يرزق الطير؛ تَغدوا خِماصًا، وتَروح بِطانًا)).

وقال بعض السلف: "توكَّل، تُسَق إليك الأرزاق بلا تعبٍ ولا تكلُّفٍ".

معشر المؤمنين:
وكم لصلة الرحم - أي: القرابة - من أثرٍ مبارك في تيسير الرزق وكثرته، وحلول البركة فيه، ودفْع النِّقمة عنه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأَ له في أثره، فليَصل رَحِمَه))؛ رواه البخاري، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تعلَّموا من أنسابكم ما تصِلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبَّة في الأهل، مَثراة في المال، مَنْسأة في العُمر)).

أمة الإسلام:
والإنفاق في وجوه الخير وما أباحه الله تعالى - من أوسع أبواب الرزق؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [البقرة: 267]، إلى قوله: ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].

وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قال - تبارك وتعالى -: يا بن آدمَ، أنفِق، أُنفِق عليك)).

أمة القرآن، والحج والعُمرة سببان مباركان في نفْي الفقر وكثرة الرزق؛ قال تعالى في سياق أحكام الحج: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تابِعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنفِيان الفقر والذنوب؛ كما يَنفي الكِير خَبَث الحديد والذهب والفضة)).

ترك ما لا يعنيك

0 التعليقات
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يسر لعباده أسباب السعادة وكتب لأوليائه السيادة وجعل حسن الخلق عبادة، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حذر من سوء الخلق والغدر والخيانة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أنزل الله عليه قرآناً فيه ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] تتلى شمائله بالثناء إلى قيام الساعة، فكان على خير خلق وطاعة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، أما بعد: فاتقوا الله حق تقاته، اتقوا الله الذي لا بد لكم من تقواه، فإن من اتقى الله وقاه وهي التي لا يقبل الله غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها وإنها خير الزاد في الدنيا والآخرة، وقد تكفل الله لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون.

أيها المسلمون:
المحاسبة طريق الصلاح، والاشتغال بتقويم النفس سبيل الإصلاح، والمحاسبة والتقويم يتطلبان عزيمة ومثابرة، وجدًّا ومصابرة، ومَنِ اشتغل بما لا يفيد انصرف عمَّا يفيد، والأمانة عظيمة، والمسؤولية جسيمة، والعمر قصير، وأعظم الربح حفظ الوقت، وخير الغنيمة محاسبة النفس. وفي هذا الزمن تكاثرت المشكلات، وتكالبت المغريات والمُلهيات؛ فزاحمت الواجبات ونازعت الأولويَّات. ومن الغريب في طبائع النفوس أنها تتلذَّذ وتسترسل في الخَوْض فيما لا يفيد، وتقطيع الوقت فيما لا ينفع، بل ما أسرعها في تتبع العَوَرات، والاشتغال بالعثرات، والانصراف إلى النقد غير البناء! ولو تأملت وتفحصت لرأيت وأدركت أنه لا يهتم بالصغائر إلا الصغار، ولا يفتش عن المساوئ إلا البطَّالون.

أيها المسلمون:
إن كثيرا من مشكلات الأمة ومآسيها والناس وآلامها ليست في شؤون السياسة، ولا في قضايا الاقتصاد، ولا في تسلط الأعداء، ولكنها في المسؤولية الخاصة على كل نفس ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11] وفي هذا كله - عباد الله - تأملوا هذا الحديث العظيم؛ فهو مقياس الأدب، ودليل الورع، ومنهج المحاسبة، ومظهر التقويم والتقوى: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))؛ رواه أحمد في "المسند" ومالك في "الموطأ"، والترمذي وابن ماجه. قال أهل العلم: هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول تهذيب النفس وتزكيتها، وقد عدَّه بعضهم ثُلُثَ الإسلام، ولقد قالوا: "اجتمع فيه الورع كله"!؛ لماذا عباد الله؟ لأن تَرْك ما لا يعني لا تقوى عليه إلا القلوب السليمة والنفوس الزاكية، نفوس تنطوي سرائرها على الصفاء، فأصحابها في راحة، والناس منهم في سلامة.

أيها المؤمنون:
لقد جاء الدين الحنيف ليسمو بالمسلم، فحثه على التزام الأخلاق الرفيعة، والقيم النبيلة، ونأى به عن سفاسف الأمور، لينصرف إلى ما فيه رفعته وعلوه، ومجده وسموه، يقول نبيكم الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، ألا وإن من أخلاق دينكم التي يسمو بها بأفرادكم، ويحفظ بها مجتمعاتكم، ترك الاشتغال بما لا يعني، وهو خلق كريم، يدل على حسن إسلام المرء، كما جاء في الحديث ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وكلنا يسعى لأن يكون ذا إسلام حسن، وخلق رفيع، فما بال أقوام يأبون إلا التدخل في شؤون الناس؟ إن مما يجمل بالمرء ويزينه، ويجعله شامة بين الناس، أن يدع الخلق للخالق، ويصرف قلبه عما لا يعنيه، فليس من بضاعة المؤمن الأريب، والعاقل اللبيب، أن يشتغل بفضول الكلام، أو يجاري الجهلاء في القيل والقال، فأخلاقه العليا، وقيمه المثلى، تضفي عليه الاحترام وجميل الحياء، فتمنعه من أن يسأل الناس عن مكنون أحوالهم وخاص شؤونهم، وما دخله بتفاصيل حياتهم؟ لقد رزق الله الناس لبيوتهم أبوابا، وجعل على أسرارهم سترا وحجابا، فهذا من ممتلكاتهم التي لا يرضون لها انكشافا، ويرفضون لها تسورا واقتحاما، فإذا داخل الأمر سخرية فالمؤمن أبعد الناس عنه، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11]، لقد جعل الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا، لا ليسخر بعضهم من بعض، يقول الله تعالى مذكرا بأصل الجميع ومبينا علة وجود الأنساب: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، إن مما ينافي المروءة ويجافي الحياء أن يعمد البعض - عافاكم الله - إلى تتبع عورات الناس، والبحث عن عيوبهم ومثالبهم، ولربما لفقوا عليهم التهم، وأثاروا حولهم الشبهات، ثم نشروا عنهم الأكاذيب والشائعات؟ أما يستحون؟ أما يفكرون في عاقبة ما يفعلون؟ ألم يقرع أسماعهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تتبع عورة أخـيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيـته)) ألا وإن من الجميل ألا يجد هؤلاء في مجتمعنا آذانا صاغية، تستمع لشائعاتهم، وتتقبـل أراجيفهم، فإنكم بحمد الله ممن يعي قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6] لقد علمنا ديننا الكريم أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، فإذا وقعنا في خطأ أو زلل، فوجدنا من يرشدنا، ويقوم اعوجاجنا، وقدم لنا النصح في ثوب اللطف، مقرونا بأدب جم؛ كان ذلك لنا سرورا، وشكرنا لصاحبه حسن الخطاب، ورجونا له طيب الثواب ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
عباد الله:
إن أخلاق الإسلام الفاضلة، إنما هي لسعادة الفرد وراحة المجتمع، تأمـلوا رحمكم الله قول ربـكم جل في علاه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة : 105]، فإذا كان القرآن يأمرنا بأن نترك من ضل بعد أن يؤدي المؤمن ما عليه من نصح وإرشاد، ويطمئنه بأن في ذاك راحته، ولا يضره غوايتهم، فكم من راحة يجنيها لو ترك الناس وخواص شؤونهم؟ إن المتأمـل المتبصر عندما يدع الخلق للخالق يدرك أن في ذلك حفظا لكرامته وكرامة الناس، بل كرامة المجتمع بأسره، فلنحمد الله على نعمة الاستقرار في المجتمع، والأمن في الوطن.

أيها المسلمون:
إن المسلم حين يعي أهمية ترك ما لا يعنيه، ويؤمن بجميل ثمرات هذا الخلق الطيب، لا بد أنه سيحرص على أن يتخلق به، ولا شك أنكم للأفضل تسعون، وفي كريم الخصال والارتقاء بأنفسكم ترغبون، وأنتم تقرؤون قول الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9- 10] فاعلموا - رحمكم الله - أن الوسيلة إلى ذلك أن يشتغل الإنسان بما يهمه وينفعه من أمور معاشه ومعاده، فإن العمر قصير، والناقد بصير، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، ولا يتأتى ذلك إلا بتنظيم الوقت التنظيم الجيد، ووضع الخطط الحازمة لحسن استغلاله، فإن من نجح في استغلال وقته وحسن تنظيمه؛ وجد لذلك من الثمرات ما لا يحصى، ولم يكن له في توافه الأمور مقصدا ولا مغزى، فتنصرف نفسه عن السـفاسف، وتتجه إلى المعالي، وما عليه إلا أن يجاهد نفسه ليعودها الاستمرار والمواصلة، فإن من جاهد هداه الله، يقول عز من قائل: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، وكما لا يخفى عليكم فإن من العادات ما يكتسب بالتعود، وما يأتي مع الزمن بالتدرج، فالعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، وكم من عادة طيبة صارت طبعا، وجنى الإنسان منها ثمرة ونفعا. فاتقوا الله -عباد الله-، وندع الخلق للخالق، ولنجاهد أنفسنا على أن نذر الناس وخواص شؤونهم، ففي ذلك راحة لنا ولهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71].

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول ما تَسمَعون، وأستغفِر الله لي ولَكم ولجميع المسلِمين من كلّ ذنب فاستَغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، حمدا يوصل الحامد إلى رضوانه. والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، ومنجية من عقوبته ونيرانه، وجالبة لرحمته وغفرانه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعى من أراد النجاة أن يعمل لها، بقلبه، وجوارحه ولسانه، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وإخوانه، وسلم تسليما. أما بعد، فاتقوا الله عباد الله تعالى.

أيها المسلمون:
إن من الناس من قد يلتبس عليه قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] فيظن أن عليه أن ينأى بنفسه عن الناس، ويتقوقع في بيته، ويهجر بني مجتمعه، معتقدا أن أمورهم لا تعنيه، ومصالحهم لا تغنيه، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام دين يربي المسلم على أن يكون فردا نافعا، ولبنة حسنة في مجتمعه ووطنه، وإنما نهى الإنسان عما لا يعني المسلم من شؤون الناس الخاصة، أو تتبع عيوبهم ونواقصهم، في الوقت الذي يأمره بأن يكون إنسانا مصلحا، يقوم بواجب النصح والإرشاد، فالنصح من صلب الدين، يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة)) وإنما على الناصح أن يكون مخلصا في نصيحته، متبعا الحكمة والأسلوب الطيب الحسن، فإننا في سفينة واحدة إن لم نأخذ بأيدي بعضنا غرقنا جميعا، فإن كان في المجتمع ظاهرة تحتاج إلى علاج، فليأخذ الناصحون والمختصون بالأساليب العمومية، دون تشهير وإحراج، هذا وإن من النصح للمجتمع أن يسعى الإنسان للصـلح بين الناس، خاصة فيما اشتهر من خصوماتهم، وإن من الخطأ أن يظن بعض الناس أن ذلك تدخلا فيما لا يعني، فقد جعل الله في الصـلح الخير والمنفعة، يقول الله تعالى: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] ويقول عز وجل: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114] فاتقوا الله - عباد الله -، وكونوا لبنة صالحة في مجتمعكم، تنأون بأنفسكم عن خواص شؤون الناس، وتسعون بالصلح والإصلاح خدمة لأمتكم.

واعلموا أن من طاعة الله الكبير المتعال، ترك ما لا يعني من الأقوال والأفعال. ثم اعلموا أيها المؤمنون إن من خير الأعمال هذا اليوم الصلاة والسلام على نبيكم محمد كامل الصفات والخصال كما أمركم ربكم ذي العزة والجلال وعليكم الامتثال فقال ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56 ]صلى الله وسلم عليه وعلى جميع صحبه والآل صلاة وسلاما دائمين الى يوم المآل وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأربعة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعنا معهم بعفوك وكرمك ياذا العزة والجلال، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر المسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، وأجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين. اللهم ربنا أحفظ أوطاننا وأعز ولي أمرنا، وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك أن ترزق كلا منا لسانا صادقا ذاكرا، وقلبا خاشعا منيبا، وعملا صالحا زاكيا، وعلما نافعا رافعا، وإيمانا راسخا ثابتا، ويقينا صادقا خالصا، ورزقا حلالا طيبا واسعا، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أهدنا لأحسن الأقوال والأفعال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم لا تؤاخذنا بزلاتنا اللهم وفقنا لحفظ جوارحنا عامة، وألسنتنا خاصة وأعمالها فيما يرضيك، وإبعادها عن طريق سخط ومعاصيك.

لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء والعبيد، لا إله إلا أنت أنت الغني الحميد اللهم يا من عمَّ برزقه الطائعين والعاصين، وعمّ بجوده وكرمه جميع المخلوقين، جد علينا برحمتك وإحسانك، وتفضل علينا بغيثك ورزقك وامتنانك، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهُمَّ اسْقِنَا غيثاً مغيثاً، غدقاً مغدِقا مونقاً، هنيئاً مريئاً، مريعاً مُرتعًا مُربعًا، ربيعاً طبقًا مجلِّلا، نافعاً غيرَ ضارٍّ، عاجلاً غيرَ رائثٍ، اللهم تحيي به البلادَ، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرّج عنا وعن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرج عنا وعن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أجمعين ﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286] ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180: 182].

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/1067/62938/#ixzz2lSq7r0DL

جميع الحقوق المحفوضة لدى كلفين للمعلوميات 2013 - 2014 | © كلفين للمعلوميات عدد الزوار المتواجدين حاليا بالموقع

back to top