ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "موعظة وعبرة في الأحداث"، والتي ذكَّر فيها بالأحداث المُعاصِرة وما فيها من عبَرٍ وعِظاتٍ، ونبَّه على أهمية العمل الصالح، والاستعداد للموت.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله آوى من إلى
لُطفه أوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوى بإنعامه من
يئِسَ من أسقامه الدوا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله شهادةً
نرجو بها الفوزَ والهُدى، والنجاةَ من الخيبة والرَّدَى، صلَّى الله عليه
وعلى آله وأصحابه ما انفَلَقَ صبحٌ ثم بدَا، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد فاز من اتقى، وخسِر من قادَه الهوى، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
الأيام دائرة، والمنايا حاضرة،
وما الناسُ إلا ظاعنٌ أو مُودِّعٌ، ومُستلَبٌ مُستعجَلٌ أو مُؤجَّلُ،
مواعِظُ قارعة، وحوادِثُ زاجِرة، ومصارِعُ مُوقِظَة، وخُطوبٌ مُنذِرة،
وفتنٌ وتقلُّبات تُوجِبُ التفكُّر والتذكُّر والعِظَة والعِبرة؛ فأين أهلُ
الاتِّعاظِ والادِّكار، والاعتبار والانزِجار؟!
أبدًا تُفهِّمُنا الخُطوبُ كُرورَها
ونعودُ في عمَهٍ كمن لا يفهمُ
تلقَى مسامِعَنا العظاةُ كأنما
في الظِّّلِّ يركُمُ وعظَه من يركُمُ
|
وكأن الموتَ على غيرنا كُتِب،
وكأن الحق على غيرنا وجَب، نسينا واعِظَة الأيام، وغفَلنا عن حوادث الزمان؛
فيا عجبًا من مُضغة لحمٍ أقسى من الجبال، لا تلينُ مع كثرة العِظات، ولا
تخشعُ مع ترادُف الآيات، ولا تزيدُها الحوادِثُ إلا نفورًا ودُبورًا
وغرورًا.
لأعجبَنَّ وأنَّى ينقضِي عجبي
الناسُ في غفلةٍ والموتُ في سَنَنِ
|
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 1- 3].
أيها المسلمون:
كم شاهَدنا من جُثثٍ في بِقاع
القاع قد صُفَّت، وكم عاينَّا من مواعِم في مدارِج الأكفان قد لُفَّت، وكم
أبصرنا من عرائس إلى الألحاد قد زُفَّت، فمال العيون ناظرةٌ ولا تُبصِر،
ومال القلوب قاسيةٌ ولا تُفكِّر، ومال النفوس ناسيةٌ ولا تذكُر؟!
أغراها إنظارُها وإمهالُها، أم
بشَّرها بالنجاة أعمالُها، أم لم يتحقَّق عندها من الدنيا زوالُها، أم
شمَلَت الغفلةُ فاستحكَمَ على القلوب أقفالُها؟!
﴿ أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
إذا كنتَ قد أيقنتَ بالموتِ والفنا
وبالبعثِ عما بعدَه كيف تغفُلُ؟!
إذا أنتَ لم ترحَل بزادٍ من التُّقَى
أبِن لي أبي يوم الجزاء كيف تفعلُ؟!
تذكَّر وفكِّر بالذي أنت صائرٌ
إليه غدًا إن كنتَ ممن يُفكِّرُ
فلا بُدَّ يومًا أن تصيرَ لحُفرةٍ
بأثنائها تُطوَى إلى يوم تُنشَرُ
يا من طويتَ في طلب الخوادِعِ أدهُرا
يا من أبيتَ أن تُفيقَ وتذكُرا
|
يا من فسحَ لنفسه المُدَّة، ومدَّ لها المُهلَة؛ أقصِر فالأمر ليس إليك، وعلَمُ الموت بين يديك.
أنسيتَ أننا بشر، يلُفُّ ناقَ درّ، ونحن في سفَر، نمضي إلى حُفَر.
الموتُ يشملُنا، والحشرُ يجمعُنا، فحتَّى ما لا ترعوِي وتنتهي، حتى ما سمعُك لا يعِي لمُذكِّرٍ، وصميمُ قلبك لا يلينُ لعاذِلِ.
ألم يأنِ أن تخشَع وأين
التهجُّدُ؟ أفي سنةٍ كنا أم القلبُ جلمَدُ؟ تيقَّظ أخي واحذر وإياكَ
ترقُدُ، أترقدُ يا مغرور والنارُ تُوقَدُ، فلا حرُّها يُطفَى ولا الجمرُ
يخمُدُ.
فطُوبَى لمن قبِلَ النَّذارَة،
ونفعَتْه التذكِرة، وأيقَظَته العِظَة، فجدَّ ولم يغفُل، وشمَّرَ ولم
يغتَرّ، وبادَرَ ولم يُسوِّف، وأخذَ الحَيطَةَ والحَذَر، وهجرَ إخوان
السوء، ولازمَ أهلَ الرِّقَّة والخشية والعلم وأنابَ وتاب، ويا خسارةَ من
حجبَه هواه، وأغواه شيطانُه وأردَاه، فما ازدادَ بالحوادث إلا غفلة، وما
ازداد بالعِظات إلا قسوة، ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [الأعلى: 10، 11].
بارك الله لي ولكم في الكتاب
والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والعِظات والحكمة، أقول ما
تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ،
فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله بارئِ النَّسَم،
ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع،
دينًا رضيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمدُه وقد أسبَغَ البرَّ الجزيل، وأسبلَ
السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ
بربِّه، ورجا العفوَ والغُفرانَ لذنبه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا
عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً
وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه سعادةٌ للأعمار، وحجابٌ من النار، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الدهرُ ذو عبر يجري بها قدَر،
مُلكٌ يُنزَع، وعافيةٌ تُرفَع، وبلاءٌ يقَع، ومن الناسِ من ليس له من
الأخبار إلا إيرادَها، ولا من الحوادِث إلا سَردها، ولا من الوقائع إلا
ذِكرَها، فاعتبِروا يا أولي الأبصار بالحوادِث والأخبار، وما يكون في
النواحِي والأمصار؛ فكلُّ مخلوقٍ للفَناء، وكلُّ مُلكٍ فإلى انتهاء، ولا
يدومُ غيرُ ملكِ الباري - سبحانه - من ملكٍ قهَّارِ، مُنفردٌ بالعزِّ
والبقاء، وما سِواه فإلى انقضاءِ.
أين من كانوا معنا في الزمان
الماضي؟ أفنَتهم المَنون القواضِي، أين المرازِبَةُ الجَحاجِحةُ
البَطارِقةُ الأُوَل، وذوو التفاضُلِ في المجالس والترفُّلِ في الحُلَل،
وذوو المنابرِ والأسِرَّةِ والمحاضِرِ والخَوَل، وذوو المشاهِد في الوغَى
وذو المكايِد والحِيَل؟ سفَلَت بهم لُجَج المنيَّة كلهم فيمن سفَل، لم يبقَ
منهم بعدَهم إلا حديثٌ أو مَثَل.
فيا لها من عبرةٍ لمن اعتبَر،
وذكرى لمن ادَّكَر؛ فمن أخذَته تلك الحوادِثُ إلى الإنابة والعبادة والطاعة
فذاك الذي اعتبَر، وعلِمَ الخبَر، وصحَّ عنده النَّظَر، وفازَ بالخير
والظَّفَر.
ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمِعون القولَ فيتَّبِعون أحسنَه.
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ
وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة
المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابة
أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك
وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ
الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم
أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك
المُوحِّدين، ودمِّر الطغاة والظلَمة والمُعتدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم
على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها، ووفِّق
قادتَها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كُن
لإخواننا في سورية من كل سوءٍ ومكروهٍ وفتنة، اللهم احفَظهم من كل سوءٍ
ومكروهٍ وفتنةٍ يا كريم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم
احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم، وأمنَهم واستقرارَهم
ووحدتَهم يا رب العالمين.
اللهم عليك
بالظلَمة الطُّغاة، اللهم عليك بالظلَمة الطُّغاة، اللهم عليك بالظلَمة
الطُّغاة، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أرِنا فيهم عجائبَ قُدرتك، اللهم
أرِنا فيهم عجائبَ قُدرتك، اللهم اقتُلهم بسلاحهم، اللهم اقتُلهم بسلاحهم،
وأحرِقهم بنارهم يا قويُّ يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم قاتلِ الكفَةَ الذين يصدُّون عن سبيلك، ويُعادُون أولياءَك، واجعل عليهم عذابَك ورِجزَك إله الحق يا رب العالمين.
اللهم طهِّر
المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة
الغادرين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعلهم لمن
خلفهم عبرةً وآيةً.
اللهم لا تُشمِت بنا أحدًا، ولا تجعل لكافرٍ علينا يدًا.
اللهم اشف
مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وعافِ
مُبتلانا، وعافِ مُبتلانا، وعافِ بمنِّك وجودِك مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا،
وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
عباد الله:
﴿ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.