الحمد
لله مجيب الداعين، ومثيب الساعين، ومعطي الطالبين، ومرضي الراغبين، ومنجد
الهالكين، ومرشد السالكين، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه
وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نبلغ بها أحسن
المآب، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث لتشريع الملة وتوجيه
الخطاب، والأمر بأدائها بالالتزام والإيجاب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الجزاء وفصل الخطاب.
صلى وسلم ذو الجلال عليك يا
من نور طلعته يشق الغيهبا
صلى وسلم ذو الجلال عليه ما
أحلاه ذكرا في القلوب وأعذبا
|
أما بعد:
فما من وصية هي أحوج ما يكون المسلم إليها
من التذكير بالعبادة الجامعة، والمنجية من عذاب الله والمانعة، العمل
بطاعة الله، على خوف من الله، وحب له، ورجاء لما عنده، والابتعاد عن معصية
الله؛ خوفا من الله، وحبا له، ورجاء لما عنده. أيها الفضلاء! الله - جل
وعلا - يأتي عباده بالمفاجآت، وهو - سبحانه - كريم، ومن كرمه أنه إذا أعطى
أدهش، ومن المفاجآت التي يأتي بها الله لعباده، المفاجأة لعبده بالرزق، فقد
يعجز الإنسان في أحيان أن يفكر في سبيل للرزق، وهو يريد أن يسأل ربه تبارك
وتعالى أن يرزقه، فيسأل نفسه: ما السبيل الذي أظن أن الرزق يأتيني منه؟ وحينها قد تأتي المفاجأة من الله - تعالى - لعبده المتقي إذ يقول - سبحانه -: ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 3].
أيها المسلمون!
تمشي تلك المرأة الضعيفة وهي تحمل طفلها
الرضيع بين يديها، وتحمل معها هم الأم لتغذية نفسها؛ ليتهيئ للطفل أن يرضع،
تمشي في واد سحيق، لا زرع فيه، ولا بشر، ولا شجر، وتنادي فيرتد عليها صدى
صوتها، ولا يؤنسها - من الخلق - غير نسائم الهواء التي تنقل إليها عبير
زوجها الراحل نحو بلد بعيد. وفي هذه الغربة؛ في بلد ليس بلدها، وأرض ليست
أرضها، لكن الرب واحد، وإن اختلفت الأماكن، تذهب فتتلفت فلا ترى إلا جرابا
من تمر، وسقاء فيه ماء، تركهما زوجها لها، فتَطعَمُ منه، وترضع صغيرها، ثم
ما هي إلا برهة يسيرة، فينفد التمر، وينتهي كل ما في السقاء، فتعطش، ويعطش
رضيعها، وتلقمه ثديها فلا يجد حليبا، وتزداد عطشا وجوعا، والصبي يتلوى على
الأرض من الجوع! حينها تندفع عاطفة الأمومة الجياشة، فتنطلق - كراهية أن
ترى طفلها يبكي من الجوع - فتجد جبلا صغيرا يٌدعى "الصفا"
فتقوم عليه، ثم تستقبل الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فتهبط من
الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود،
ثم جاوزت الوادي، ثم تأتي جبلا آخر يدعى "المروة"
فتقوم عليه، فتنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا. ولأنها أم فلم يعجزها أن
تكرر فعلها هذه مرة واثنتين وثلاثا، بل وخمسا، بل فعلته سبع مرات. فلما
أشرفت في المرة السابعة على المروة سمعت صوتا فقالت: صه! تريد نفسها، ثم
تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت، إن كان عندك غواث! لا تدري هي من تخاطب،
ولا تعلم ما هو، فتقع عندها المفاجأة من الكريم - جل جلاله -؛ إذ يرسل
الله خلقا من أكرم خلقه عليه - وهم الملائكة - يرسله ليكون سببا في رَزقِ
امرأة وطفل رضيع، ولم يكن غوثهم بقربة فيها ماء، أو إناء فيه طعام، بل بحث
الملك بعقبه - أو جناحه - في الأرض فيظهر الماء، ولكنه ليس كسائر المياه،
فلم يكن ثمة سبب ظاهر لأن يكون في ذلك المكان معين ينهل الناس منه؛ فليس
ثمة أنهار حوله، بل يكرم الله تلك الأم وذلك الرضيع بعطائه فيجعله نبعا
دائما لا ينقطع، ويكون طعاما لمن أراده طعاما، ورِيَّاً لمن أراده ماء،
وشفاء لمن ابتغاه علاجا. ثم تستمر بركته، ولم ينقضِ عطاء الله - ولا ينقضي -
فتكون تلك البقعة أطهرَ بقعة على وجه الأرض، وأحبَّها إلى الله، ثم تكون
حرما وأمنا للناس ومثابة، ثم يكون ذلك الماء موئلا للناس، ثم تكون كعبة
الله - تعالى - وبيته بجوار ذلك النبع، ويبني تلك الكعبة خليل الله وعبده
إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ومعه ذلك الذي كان رضيعا ومن أجله شق ذلكم
الينبوع، وينادي خليل الله بنداء يبقى حتى قيام الساعة، فيحج الناس ذلك
البيت زرافات ووحدانا، ورجالا وركبانا، يأتون من كل فج عميق، ليعتمروا بيت
الله العتيق. ويستمر عطاء الله، فيخرج من نسل ذلك الرضيع خير خلق الله،
وأحبُّهم إليه، وأحظاهم بمنزلة عنده؛ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -،
ثم يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - هو من يزيد ذلك الماء شرفا، فيُغسل
قلبه الطاهر بماء زمزم وهو صغير، ثم يَشرب منه، ويقول - بأبي هو وأمي -:
(ماءُ زمزم لما شُرِبَ له). فمن شربه لأجل الغنى اغتنى، ومن شربه لأجل
العافية عوفي، ومن شربه لأجل الهداية هُدِي، وقس على ذلك. أيها المسلمون!
وازداد زمزم بركة على بركته، ولذة على لذته، وشفاءً على شفائه، حين جيءَ
إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بدلو من زمزم فشرب منه وتمضمض ثم
مَجَّ في الدلو وأمر فأهريق في زمزم. ماء زمزم - أيها المسلمون - توارد
عليه الصحابة - رضي الله عنهم - اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
فأبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - شرب منه شهرا كاملا، ولم يدخل جوفه غير
زمزم، فسَمِن، حتى تثنى لحم بطنه. وابن عباس - رضي الله عنه - كان إذا شرب
من زمزم قال: "اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كل
داع". وعنه - رضي الله عنه كما في البخاري - أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال: (الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بماء زمزم). ووقف التابعي الجليل
عبدالله بن المبارك بعد أن شرب زمزم واستقبل القبلة، فقال: اللهم إن ابن
أبي الموالي حدَّثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله، عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له))، وها أنا ذا أشربه
لعطش يوم القيامة، ثم شربه. واشتهر عن الشافعي أنه شرب ماء زمزم للرَّمْي،
فكان يصيب من كل عشرة تسعة. وشربه للعلم، فهو من العلم بمكان. وكان والد
الإمام المُقرئ محمد بن محمد الجزري تاجرًا، ومكث أربعين سنة لم يُرزَق
ولدًا، فحجَّ وشرب ماء زمزم بنيَّة أن يرزقه الله ولدًا عالمًا، فوُلِد له
تاج القراء ابنه محمد في رمضان من السنة التي بعد حجه.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون:
قد قال الله تعالى: ﴿ .. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
﴾ [الطلاق: 2، 3]، فإذا ضاق عليك رزقك، وقُدر عليك فيه، فاستمسك بالتقوى،
وعليك بها من قبل ومن بعد، ولا تجعل تقواك لله - تعالى - مجرد طلب لرزق؛
فإن الله يوفي بوعده لمن صدق ربه، وإذا اتقيت الله فلا تستبطئن رزقه،
وانتظر وعد من قال: ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾،
فلعله لم يَدُر بخَلَدِ أم إسماعيل - عليهما السلام - أن يكون عطش ابنها،
سقيا من بعد ذلك لسيد ولد آدم نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لكن ثمة سبب
في هذا كله، وهو صدق التوكل على الله، فقد روى البخاري أن إبراهيم - صلى
الله عليه وسلم - لما وضع هاجر وإسماعيل (قَفَّى إبراهيمُ منطلقًا،
فتبعتْهُ أمُّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيمُ، أين تذهبُ وتتركنا بهذا
الوادي، الذي ليس فيهِ إنسٌ ولا شيٌء؟ فقالت لهُ ذلك مرارًا، وجعل لا
يتلفتُ إليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا
يُضَيِّعُنَا، ثم رجعتُ، فانطلقَ إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ
حيثُ لا يرونَهُ، استقبلَ بوجهِهِ البيتَ، ثم دعا بهؤلاءِ الكلماتِ، ورفع
يديهِ فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ... ﴾ [إبراهيم: 37]- حتى بلغ - ﴿.... يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]. أيها المؤمنون! صلوا وسلموا على سيد ولد إسماعيل..
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق