استمع للقرآن الكريم

فضل قيام الليل وأهميته [1]



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، النبي الأمي الذي أرسله ربه بالهدى والحق والدين؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى، الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم نصرة لهذا الدين، ولرفع راية الإسلام خفاقة في كل مكان، فرضي الله عنهم أجمعين، ومن سار على هديهم واتبع طريقهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فمن المعلوم أن صلاة الليل تُورِثُ النور في الوجه، قال الله تعالى: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29]، وهذه السمة هي التي تميز المسلم يوم القيامة.

وتورث أيضًا السعة في الرزق، واليسر في أمر المعيشة، فيكون عيشه موفرًا ورزقه موفورًا، قال الله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].

وتورث أيضًا المحبة في قلوب الناس، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].

وتورث المحبة عند الله؛ لأن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل وأمره أن ينادي في السموات وفي الأرض: أن الله يحب فلانًا فأحبوه، ثم يلقى له القبول في الأرض فلا يراه إنسان إلا أحبه، كما ورد بذلك الحديث[2].

وتورث عند الإنسان قوة الاحتمال والصبر على الشدائد وعدم الجزع، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ [المعارج: 19].

والصلاة تفرج الهم والكروب، كما روي أنه صلوات الله وسلامه عليه كان إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصلاة[3].

وتورث القوة في الجسم والأعصاب وتجعله ذا مناعة وصلابة وتتباعد عنه الأمراض، قال شمس الدين العلامة ابن قيم الجوزية: (ما أصيب اثنان بمصيبة أو حادثة إلا كان حظ صاحب الصلاة منها أقل من صاحبه وأيسر)، ثم قال: (وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب)[4].

والسر في محبة أولياء الله وعباده الصالحين للقيام في الليل والعبادة فيه بالتهجد وإحيائه بالأدعية والأذكار أمور عديدة:
منها: أنه أهدأ للأصوات، وأفرغ للقلب ليتسنى له تدبر آيات الله وترتيلها والتفكير فيها وتدقيق النظر في دلالاتها ومنطوقها ومفهومها.

ومنها: أنه أريح للضمير؛ لأن الأشغال والتكسب إنما يكون غالبًا في النهار، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴾ [المزمل: 7].

ومنها: أن عبادة الليل بعيدة عن الرياء المحبط للأعمال، وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشرك الأصغر[5]، ولأنه أقرب لإجابة الدعاء، كما روى مسلم والبخاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:  "يَنزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنيَا حِينَ يَبْقَى مِنَ اللَّيلِ ثُلُثُهُ، فَيَقُولُ: مَنَْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُني فَأَعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِرَ لَهُ؟" [6]، متفق عليه.

والدعاء أمر مشروع فينبغي أن يلجأ الإنسان إلى ربه، وأن يدعوه وحده بما أحب أن يدعو ربه، وأن يفوض أمره إليه في تضرعه ودعائه، وإن كان الله جل وعلا لا يخفى عليه شيء من سريرة العبد؛ لأن الدعاء مظهر من مظاهر العبادة والخضوع له والصمود إليه في الحوائج وفي نوائب الأيام.

والدعاء مخ العبادة، كما قال تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، وكما في الحديث الصحيح: "الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ"[7]، رواه أحمد.

فادعوا الله عباد الله وابتهلوا إليه، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، كما في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن العامل إنما يوفى أجره بعد إتمامه عمله وإكماله، واعلموا أن حسابكم وأجركم عند الله عز وجل، وأن ما تقدموا لأنفسكم من خير وعمل صالح فستجدونه مسجلًا باسمكم محفوظًا لكم، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، قال الشاعر:
إذا افتقرتَ إلى الذخائِر لم تَجِدْ
ذُخرًا يكونُ كصالحِ الأعمالِ

أيها المسلمون:
سارعوا إلى العمل الصالح والاجتهاد، واعلموا أن شهر الصوم شهر حبيب إلى نفوسنا، هذا الشهر الذي أنزل فيه قرآننا معشر المسلمين سوف يرحل عما قريب، فودعوه بالاستغفار والعمل الصالح، ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

أيها الإخوان:
إن شهر العطف والرحمة، شهر المحبة والإحسان، شهر المواساة والعطف، شهر الصدقات والبر والمعروف؛ قد سافر فودعوه، وتماكنوا ما وسعكم ذلك؛ إن الأعمال بالخواتيم، واستغفروا ربكم وأنيبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم، وحاسبوا أنفسكم وتزودوا من أعمال الخير، فإن خير الزاد التقوى، واطرحوا الكسل والبطالة فليس فيها إلا الشر في الدنيا والآخرة، قال الشاعر:
ليس البطالةُ والكَسَل
بالجالِبَيْنِ لك العَسَلْ
فاعمَلْ فإنَّ الله قد
حثَّ المطيعَ على العَمَلْ

أيها الإخوان:
إن التكبير في ليلة العيد سنة مؤكدة من أول الليلة إلى ما بعد الصلاة، وقد جرت عادة بعض الناس أن لا يكبروا في ليلة العيد من رمضان، وأن يكبروا في ليلة عيد الأضحى، والصحيح أنه لا فرق في ليلها، وأن التكبير مشروع في الليل إلى ما بعد صلاة العيد، والتكبير المأمور به هو المأثور: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، و لله الحمد.

فأمرنا الله أن نكبر في ليلة العيد إلى ما بعد الصلاة حمدًا له وشكرًا على أن هدانا إليه من أداء شعائره وتمام فرائضه وعلى تيسيرها وتسهيلها لنا، قال تعالى: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].

أيها المسلمون:
إن الله قد فرض علينا الفطرة والتي تسمى زكاة الفطر، وذلك لأن الصائم مهما كان حافظًا لنفسه فلا بد أن يحصل منه شيء من الكلام الغير مرضي أو الرفث، أو غير ذلك؛ فهي تطهر الصائم، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهى زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهى صدقة من الصدقات[8]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وطعمة للمساكين"، أي: خاصة بالمساكين.

وقد روي: أن عمل الصائم معلق بين السماء والأرض حتى يعطي صدقته، فإذا أعطاها أثيب على عمله[9]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على: العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير؛ من المسلمين"[10]، وفي حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة الفطر تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"[11]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "اغنوهم في هذا اليوم عن الطواف" [12].

ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين أو يوم، والأفضل في ليلة العيد، وفجرها أفضل، فأغنوا فقراءكم في يوم العيد، وساعدوهم فهم إخوانكم، غير أن الله كتب عليهم العدم وقد يغنيهم فيما بعد، ولكن الله أمرنا أن نمد يد المساعدة إليهم، وأن نواسيهم وأن نعطيهم الفطرة وحدهم، فهم الذين يستحقونها لكي يفرحوا معنا في هذا اليوم، ويكون عيدًا علينا وعليهم.

أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وأن يتجاوز عنا، وأن يختم لنا الشهر بخير، ويجعلنا من عتقائة، إنه سميع مجيب، وأسأله أن يبارك لكم في هذا العيد وأن يجعله عيدًا سعيدًا علينا وعليكم وعلى جميع المسلمين، والله أعلم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من كتاب "رسالتان في القدر والربا ومقالات متنوعة" للمؤلف.


[1] كلمة ألقيت في إحدى المساجد بتاريخ: 28/9/1375ه-.
[2] لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَحَبَّ الله الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ"، أخرجه البخاري برقم (3209).
[3] لما روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر، صلى". أخرجه أحمد في المسند (5/388)، وأبو داود برقم (1319)، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (3/172)، والألباني في صحيح الجامع برقم (4703)، وفي صحيح أبي داود برقم (1319).
[4] انظر: زاد المعاد، لابن قيم الجوزية (4/247).
[5] لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ - يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ -: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا؛ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟"، أخرجه أحمد في المسند (5/428، 429)، والطبراني في الكبير (4/253) رقم (4301)، وأورده البغوي في شرح السنة برقم (4135)، والمنذري في الترغيب والترهيب برقم (32)، عن محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد وغيره، وقال الأرناؤوط في تحقيق شرح السنة: إسناده قوي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1555).
[6] سبق تخريجه.
[7] أخرجه مسلم برقم (984)، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أبو داود برقم (1609)، وابن ماجه برقم (1827)، والحاكم (1/568) رقم (1488). قال الحاكم: صحيح على شرط البخارى، ووافقه الذهبى, وحسنه النووى فى المجموع (6/126)، والألباني في إرواء الغليل برقم (843)، وفي صحيح أبي داود (1427).
[9] يشير إلى ما روي عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شهر رمضان معلق بين السماء والأرض لا يرفع إلا بزكاة الفطر"، أخرجه الديلمى (1/235) رقم (901)، وأورده ابن الجوزى فى العلل المتناهية (2/499) رقم (824)، وقال: لا يصح، فيه محمد بن عبيد مجهول، وقال المنذرى (2/97): رواه أبو حفص بن شاهين فى فضائل رمضان، وقال: حديث غريب جيد الإسناد، وقال المناوى (2/455): فيه ضعف، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (43).
[10] أخرجه البخاري برقم (1504)، ومسلم برقم (984)، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري برقم (1508)، ومسلم برقم (986)، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[12] أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والدار قطني (2/153)، والبيهقي (4/175)، بألفاظ متقاربة عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد ضعفه الحافظ في بلوغ المرام (ص647)، وضعفه الألباني في الإرواء برقم (844).
المرجو نشر هذا الموضوع

Sharing Widget bychamelcool


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق المحفوضة لدى كلفين للمعلوميات 2013 - 2014 | © كلفين للمعلوميات عدد الزوار المتواجدين حاليا بالموقع

back to top