الحمد
لله الذي خلق الخلقَ ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، أحمده - سبحانه -
المتفرد بالخَلْق والإيجاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ألا
له الخَلْق والأمر تبارك الله رب العالمين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صفوةُ
الخَلْق وأكرمهم على الله تعالى، وأفضل من عرَف الله تعالى حقَّ معرفته
وأفرده بألوهيَّته، ووصَفه بأسمائه وصفاته، وأقرَّ بربوبيته -صلى الله عليه
وسلم- وعلى آله وأصحابه المهتدين المتمسكين بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأيها المسلمون، اتقوا الله تعالى
بالمبادرة إلى فِعْل أوامره، والكف عن محارمه، ولا تغتروا بإمهاله فهو
الحليم الكريم، يُمهِل ولا يُهمِل، وكيف يُهمِل مَن خلَق فسوَّى، وقدَّر
فهدى؟ فهو الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وجرى تركيبه بأمر العزيز
الحكيم، ونفخ فيه الرُّوح العلي العظيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ
﴾ [الانفطار: 6 - 8]، فلا يَصِح للمسلم أن يُخالِف هذا الشرع القويم، فلا
يغترَّ بإمهال الله تعالى لمن خالَفه، وتمادى في غيِّه وطغيانه، ألا وإن
مما نهى عنه شرع الله تعالى المبين، وسُنَّة رسوله الغراء: تصويرَ ذوات
الأرواح، فجاء الوعيد الشديد، والتهديد الأكبر على المصوِّرين لذوات
الأرواح من إنسان وطيور أو حيوان، ووصَفه الله تعالى في الحديث الشريف
بالظلم، فهو أظلم الظالمين؛ لأن هذا المصوِّر ذهب يُضاهي خلْقَ الله تعالى،
وهو عاجز حقير عن أن يَخلُق أضعف مخلوق، وإن صوَّره فهو عاجز عن نفْخ
الرُّوح فيه؛ لذا كان عذابه على يد من صوَّره يوم القيامة، فإنه يُكلَّف
بأن يَنفُخ فيه الرُّوح وليس بنافخ؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله - عز وجل
-: ((ومَن أظلم ممن ذهب يخلُق كخلقي، فليَخلُقوا ذرة، وليخلقوا حبة أو
شعيرة))، وكفى بهذا الوعيد للمصوِّر رادعًا وزاجرًا إن كان مؤمنًا بربه
ومقرًّا برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- القائل: ((أشدُّ الناس عذابًا
يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله))، وقال بعض العلماء: "من صوَّر
الصورة لتُعبَد، أو قصَد معنى المضاهاة معتقدًا جواز ذلك، فهو كفْر، فهو
أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وإن لم يَعتقِد بها العبادة ولا المضاهاة،
فهو فاسق، صاحب ذنب كبير، ولا يَكفُر كصاحب المعاصي".
وقال بعض أهل العلم: تصوير صورة الحيوان
حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر المتوعَّد عليها بهذا الوعيد الشديد،
وسواء صنعه لما يُمتَهن أم لغيره، فصُنْعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب
أو بساط أو درهم أو دينار أو فِلس أو حائط أو إناء أو غيرها، فأما ما ليس
فيه صورة حيوان، فليس بحرام؛ كالأشجار والجبال ونحوها.
وإذا تقرَّر فيما تقدَّم حُكْم المصوِّر،
فاستعمال الصور لا يجوز، إلا على وجه الإهانة؛ لما فيه من التشجيع على
المعصية وانتشارها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- رأى عندها قماشًا فيه صور، فقال: ((ما هذه النُّمرقة؟))، قلت:
لتَجلس عليها وتوسَّدها، قال: ((إن أصحاب هذه الصور يُعذَّبون يوم
القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتُم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه
الصور)).
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "قدَّم
الجملة الأولى؛ اهتمامًا بالزجر عن اتخاذ الصور؛ لأن الوعيد إذا حصل
لصانعها، فهو حاصل لمستعمِلها؛ ولأنها لا تُصنَع إلا لتستعمل، فالصانع
تَسبَّب، والمستعمل باشَرَ، فيكون أولى بالوعيد، ويستفاد منه: أنه لا فَرْق
في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، وبين أن تكون مدهونة
أو منقوشة أو منقورة أو منسوخة".
ويُبيِّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
موقفَ المسلم من الصورة، فيما روى مسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي:
"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ألاَّ تَدع
صورة إلا طمستَها، ولا قبرًا مُشرفًا إلا سويَّته".
فاتضح لنا أن استعمالها من غير حاجة
ماسَّة لا يجوز، وسواء استعملها تعليقًا على الحيطان تقديرًا أو إجلالاً،
أو احتفاظًا لها وتعظيمًا وإكرامًا، وخصوصًا إذا كانت صور أحد العلماء
الصالحين.
أمَا علمتُم أن تعظيم صور العلماء الصالحين هو سبب أول شِرْك وقع على وجه الأرض؟ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
﴾ [نوح: 23]، قال المفسرون: هذه أسماء رجال صالحين لهم القَدْر العظيم عند
أقوامهم، فجاءهم الشيطان فأوحى إليهم بأن يتَّخِذوا صورًا لهؤلاء؛
ليتذكَّروا أعمالهم فيفعلوها، فلما ماتوا قال الشيطان لمن بعدهم: إن آباءكم
لم يتَّخِذوا صورًا لهؤلاء إلا لعبادتها، فعبَدوها، فمِن هنا وقَع
الشِّرك، ومن هنا حذَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تعظيم الصور
للصالحين والعظماء؛ مخافة أن تقع أمَّتُه فيما وقع فيه هؤلاء، وفيما وقعت
فيه اليهود والنصارى من تعظيم صور الصالحين حتى نصبوها في كنائسهم وعبدوها.
فاحذروا ما نهاكم الله تعالى عنه أيها المسلمون، ولا تتخذوا من دون الله تعالى أندادًا وأنتم تعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر
الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه
هو الغفور الرحيم.
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق