أمّا بعد:
أيّها المسلمون، الأسرة قاعدة
المجتمع، وأصله ومرتكزه، إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن ضاعت وفسدت، فسد
المجتمع، وانحطت الأمة إلى دركات الرذيلة.
من هنا فقد جعل الإسلام نصيباً
عظيماً من العناية بالأسرة وتوثيق الروابط بين أفرادها، إذ جعل في ظلِّها
تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والمحبّة، والسكينة، سواء بين الزوجين -
وهذا له موضوع آخر، أو بين الآباء وأبنائهم، وهذا موضوعنا اليوم.
فقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء فقال جلّ وعلا: ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
﴾ [البلد: 3]، وهذا فيه إشارة لهذه الرابطة العظيمة التي جعلها الله عز
وجل - لمن أراد توفيقه - من أحسن النعم التي يسألها عباد الرحمن ربهم، ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
قال ابن عباس: يعنون من يعمل بالطاعة، فتقرُّ به أعينهم في الدنيا والآخرة.
فالعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات.
وهذا مأحببت أن أنبه إليه اليوم، ونحن نستقبل الإجازة الصيفية لهذا العام.
فأصغ إلي جيداً، أيها الوالد الحريص على ولده من الضياع، في زمن كثرت فيه الشهوات، وعمت فيه الفتن والشبهات.
أخي الحبيب..
1 - أوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، تعليمهم دائماً أن الله يراقبهم في السر والعلن ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ ﴾ وهذا أدعى ليستقيم سلوك الولد في كل حال، في السر والعلن، ذكّر ابنك دائماً بوصية لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿ يَابُنَيَّ
إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ﴾. هذا يوسف عليه السلام الذي أوتي شطر الحسن وكان غلاماً يافعاً. لكنه تربى على مراقبة الله في بيت نبوة، يتعرض لفتنة امرأة العزيز ﴿ وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾.
وهذا معلم الناس الخير يوصي ابن عمه عبد الله بن عباس وكان غلاماً، وقد أردفه خلفه على دابته بكلمات جامعات يسيرات:
يقول صلى الله عليه وسلم: "يا
غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا
استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه أحمد والترمذي.
2- وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرِص على ما ينفعُك)).
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما
ينفع أبناءَه، وإبعاد ما يضرّهم، فالإجازة فرصة يستفيد منها كثير من
أبنائنا في الانتساب لبعض الدورات الشرعية، أو دورات علمية كالحاسوب مثلاً،
أو للتقوية في بعض العلوم العامة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة فاحذر أخي...
3- أيها الأب الحبيب..
اقترب من ابنك ومن ابنتك، وتحدث معهم، وحاورهم فيما يعانونه، وساعدهم في
حل مشكلاتهم، وأرشدهم وانصحهم باللين والحكمة، وأظهر تعاطفك معهم، فإن
الفجوةُ بين الوالد والولد عامِل من عوامل حَجب الابن عن إظهار مكنون صدره
لوالدِه، فيبوح بما في سريرته إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ
والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط
معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ
للأبناء وطمأنينة للآباء وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ
باستمساك والديهم بدينهم، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا
بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
4-
واختيار الرفقةِ الصالحين لهم، والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد،
ورُسُل الله عليهم الصلاة والسلام عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى عليه
السلام يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم اتّخذ
له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو
كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي))،
وعائشة رضي الله عنها تقول: لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان
النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره.
الجليس الصّالح يهديك للخير،
يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا
غِبت. ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك
نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير ينأى بك، على أمور الدنيا لا
يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال جلّ وعلا: ﴿ وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا
خَلِيلاً ﴾ [الفرقان: 27، 28]، فجالِس الصالحين واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء آخاه
|
5-
كما أنَّ الملهيات الحضاريّةَ المحظورة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط
مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم العقول من المتربِّصين
بالشباب، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل
أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
والجوال الذي يتخذه الأولاد
للعبث، وإضاعة المال، من أخطر الأدوات التي تفسد تربية الولد، وتصله بأصحاب
السوء، بل بصاحبات السوء، وتضيع وقته وعمره من غير فائدة، وتعوده على
الإسراف وإضاعة المال، في الوقت الذي يعاني فيه الآباء مايعانون لتأمين
الرزق الحلال لأبنائهم.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ
﴾ [المائدة: 15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله في هذه
البلاد أمرٌ يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولقد صان الله بها كثيرًا من
الناشئة عن الانحراف، وحفِظ الله بها الدين، كَم انتفع بها من يتيم، وكم
أسدَت للناشئة من معروف، وكم أوصدَت من أبواب الشرور، وكم وسَّعت من
مدارِك، وكم فتحَت من آفاق، والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه
تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم
من الشرور والفتن، وحصنٌ من توغُّل الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
واعلم - أيّها الابن
- أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة وأخلاقهم سامِية، مع
الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو
أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو
ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم
صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِ سعادةَ الدنيا والآخرة.
وفي المنعرج الحرِج تُوجّه الدّعوة
بإلحاحٍ إلى إيلاء قضايا الشّباب عنايةً خاصّة؛ إذ هم في الأمّة محطّ
أنظارها ومعقِد آمالها، هم مشاعلُ الحاضر وبناة المستقبل بإذن الله، هم
ذُخر الأوطان وغيثُها المبارك الهتّان، فيجِب - ونحن أمّة ثريّة بحمد لله
بدينها وقيَمها - أن نعملَ على إنشاء جيلٍ يحمِل مشعلَ الإيمان والعقيدة،
ونورَ العقل والبصيرة، وبردَ الثقة واليقين، وسدادَ الفكر والرأي، واتّقادَ
الذهن والضمير، وصفاءَ السيرة والسريرة، ليكون بإذن الله خيرَ مَن يغار
على دينه وأمّته وبلاده ومقدَّراتها، يدفع عنها الأوضار، ويقيها بحول الله
عاتياتِ الأشرار وعاديات الفتَن وهائجات المِحن.
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق