أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ
بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾[الحديد: 28، 29].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
في الأَيَّامِ القَلِيلَةِ المَاضِيَةِ،
شَهِدتُم وَشَهِدَ العَالَمُ عَلَى مَسمَعٍ مِنهُ وَبَصرٍ، حَادِثَتَينِ
عَظِيمَتَينِ وَمُصَيبَتَينِ فَادِحَتَينِ، وَقَعَتَا في بَلَدَينِ
مُسلِمِينَ شَقِيقَينِ، كَانَ ضَحَايَاهُمَا مُسلِمِينَ وَمُسلِمَاتٍ
قَانِتِينَ وَقَانِتَاتٍ، وَأَطفَالاً رُضَّعًا وَشُيُوخًا رُكَّعًا،
وَمُسَالِمِينَ لم يَحمِلُوا سِلاحًا وَلا ارتَكَبُوا جُرمًا، وَلم يَكُن
قَتلُهُم نَصرًا لأَحَدٍ وَلا غُنمًا، بَلِ استُبِيحُوا بَغيًا عَلَيهِم
وَعُدوَانًا وَقُتِلُوا ظُلمًا، وُجِّهَت لَهُم أَفوَاهُ الرَّشَّاشَاتِ،
وَرُمُوا بِالمَدَافِعِ وَالطَّائِرَاتِ، وَسُلِّطَت عَلَيهِمُ الأَسلِحَةُ
النَّوَوِيَّةُ وَضُرِبُوا بِالمُبِيدَاتِ، وَتَاللهِ مَا كَانَ هَذَا
لأَنَّهُم صَنَعُوا دَبَّابَةً أَو أَنتَجُوا مِدفَعًا، وَلا لأَنَّهُم
أَرسَلُوا لِسِوَاهُم صَارُوخًا أَو طَائِرَةً بِلا طَيَّارٍ، وَلا
لأَنَّهُم يَحمِلُونَ في جُيُوبِهِمُ الرَّصَاصَ وَالقَنَابِلَ، وَلَكِنْ
لأَنَّهُم آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ، وَاتَّبَعُوا كِتَابًا
أُنزِلَ مِن عِندِهِ مُصَدِّقًا لما بَينَ يَدَيهِ، يَهدِي إلى الحَقِّ
وَإِلى طَرِيقٍ مُستَقِيمٍ، أَجَلْ - يَا عِبَادَ اللهِ - لَمَّا آمَنَ
المُسلِمُونَ بِرَبِّهِم وَاهتَدُوا، وَأَرَادُوا أَن تَكُونَ حَيَاتُهُم
كَمَا أَرَادَ رَبُّهُم، اِغتَاضَ لِذَلِكَ الكُفَّارُ وَحَسَدُوهُم،
وَنَقمُوا مِنهُم إِيمَانَهُم وَهَمُّوا أَن يَستَضعِفُوهُم أَو
يَقتُلُوهُم، وَتِلكَ سُنَّةٌ جَارِيَةٌ في الأُمَمِ مِن قَبلِنَا، وَجَرَت
لِنَبِيِّنَا محمدٍ وَأَصحَابِهِ في فَجرِ الإِسلامِ وَمَبدَأِ
الدَّعوَةِ، وَسَتَظَلُّ مَا شَاءَ اللهُ أَن يَبقَى في الأَرضِ مُؤمِنٌ
مُوَحِّدٌ، يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَن الحُكمَ للهِ،
الَّذِي أَمَرَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴿ قُتِلَ أَصحَابُ الأُخدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُم عَلَيهَا قُعُودٌ * وَهُم عَلَى مَا يَفعَلُونَ بِالمُؤمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنهُم إِلَّا أَن يُؤمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ
﴾ [البروج: 4، 9] نَعَم - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ - إِنْ يَكُنْ
إِخوَانُنَا في مِصرَ قُتِلُوا، وَأَهلُنَا في الشَّامِ قَد حُرِّقُوا،
فَلَقَد حُرِّقَ المُؤمِنُونَ مِن أَصحَابِ الأُخدُودِ قَبلَهُم، نِقمَةً
مِنَ الكُفَّارِ لإِيمَانِهِم، في مَشهَدٍ لأَبشَعِ القَتلِ وَأَشنَعِهِ
وَأَفظَعِهِ، سَيبَقى يُتلَى في كِتَابِ اللهِ إلى أَن يَشَاءَ اللهُ،
لِيَكُونَ نِبرَاسًا لِلمُؤمِنِينَ وَمِصباحًا لِلسَّالِكِينَ، يُضِيءُ
الطَّرِيقَ لَهُمُ وَيُنِيرُ الدُّرُوبَ أَمَامَهُم؛ لِيَعلَمُوا
وَيُوقِنُوا، أَنَّهُم مَا بَقُوا عَلَى الإِيمَانِ وَاستَمسَكُوا
بِالحَقِّ، فَسَيُبتَلَونَ وَيُفتَنُونَ، وَسَيَمُرُّ بِهِم مَا مَرَّ
بِمَن قَبلَهُم بَينَ حِينٍ وَحِينٍ، فَيُعِدُّوا لِذَلِكَ العُدَّةَ
وَيَصبِرُوا، وَيَستَقِيمُوا وَيَثبُتُوا. نَعَم - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ -
لَقَدِ ابتُلِيَ أَصحَابُ الأُخدُودِ، وَهُم قَومٌ مِنَ المُؤمِنِينَ
السَّابِقِينَ، كَانُوا مِنَ النَّصَارَى المُوَحِّدِينَ إِذْ كَانَتِ
النَّصرَانِيَّةُ هِيَ الدِّينَ، ابتُلُوا بِأَعدَاءٍ لَهُم طُغَاةٍ
قُسَاةٍ، وَتَوَلىَّ أَمرَهُم أَشرَارٌ فُجَّارٌ، أَرَادُوهُم عَلَى تَركِ
عَقِيدَتِهِم وَالارتِدَادِ عَن دِينِهِم، فَأَبى أُولَئِكَ المُؤمِنُونَ
وَتَمَنَّعُوا، وَأَصَرُّوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِعَقِيدَتِهِم وَالبَقَاءِ
عَلَى إِيمَانِهِم، فلم يَحتَمِلِ الطُّغَاةُ مِنهُم ذَلِكَ، فَشَقُّوا
لَهُم في الأَرضِ أَخَادِيدَ كَبِيرَةً، وَأَوقَدُوا فِيهَا نِيرَانًا
عَظِيمَةً، وَكَبُّوا المُؤمِنِينَ فِيهَا فَمَاتُوا حَرقًا، فَعَلُوا
ذَلِكَ الفِعلَ الشَّنِيعَ، المُخَالِفَ لأَقَلِّ حُقُوقِ الإِنسَانِيَّةِ،
وَالبَعِيدَ عَن كُلِّ مَعَاني الرَّحمَةِ، عَلَى مَرأًى مِنَ الجُمُوعِ
الَّتي حَشَدُوهَا لِتَشهَدَ مَصرَعَ الفِئَةِ المُؤمِنَةِ، وَلِتَستَمتِعَ
بِمَوتِهِم بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ المُؤلِمَةِ المُحزِنَةِ، وَظَنًّا مِن
أُولَئِكَ الطُّغَاةِ البُغَاةِ أَنَّهُم بِمَشهَدِ المُؤمِنِينَ
يَتَفَحَّمُونَ في النَّارِ وَيَلتَهِمُهُم حَرِيقُهَا، قَد شَفَوا
غَلِيلَهُم وَانتَصَرُوا، وَأَنَّ المُؤمِنِينَ قَد خَابُوا وَخَسِرُوا،
وَنَسُوا أَو تَنَاسَوا أَنَّ اللهَ القَوِيَّ العَزِيزَ، الَّذِي خَلَقَ
خَلقًا هَائِلاً وَصَنعَ كَونًا عَظِيمًا، وَجَعَلَ سَمَاءً ذَاتَ بُرُوجٍ
وَيَومًا مَوعُودًا، وَالَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٍ، نَسُوا أَو تَنَاسَوا أَنَّهُ ذُو العَرشِ
المَجِيدُ الفَعَّالُ لما يُرِيدُ، وَأَنَّهُ قَد أَهلَكَ الجُنُودَ
فِرعَونَ وَثَمُودَ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ مُحِيطٌ، لا
يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ، وَقَد جَعَلَ وَرَاءَ
الأُولى آخِرَةً، وَأَحصَى خَلقَهُ وَعَدَّهُم عَدًّا، وَكُلُّهُم آتِيهِ
يَومَ القِيَامَةِ فَردًا.
وَقَد أَعلَنَ - سُبحَانَهُ - غَضبَهُ
وَنِقمَتَهُ عَلَى أَصحَابِ الأُخدُودِ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤمِنِينَ
وَالمُؤمِنَاتِ، فَقَالَ: " قُتِلَ أَصحَابُ الأُخدُودُ " ثم بَيَّنَ
جَزَاءَهُم في الآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ثُمَّ لم يَتُوبُوا فَلَهُم عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُم عَذَابُ الحَرِيقِ
﴾ [البروج: 10] وَقَد بَيَّنَ - تَعَالى - ذَلِكَ؛ لِيُعلَمَ أَنَّ
الَّذِي يَحدُثُ في الأَرضِ وَيَرَاهُ النَّاسُ في هَذِهِ الدُّنيَا
وَيُشَاهِدُونَهُ، لَيسَ هُوَ الخَاتِمَةَ وَلا نِهَايَةَ المَطَافِ، بَل
لَهُ عِندَ أَحكَمِ الحَاكِمِينَ بَقِيَّةٌ وَأَيُّ بَقِيَّةٍ؟ ﴿ المُلكُ يَومَئِذٍ للهِ يَحكُمُ بَينَهُم فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ *
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَو مَاتُوا
لَيَرزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيرُ
الرَّازِقِينَ * لَيُدخِلَنَّهُم مُدخَلاً يَرضَونَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
﴾ [الحج: 56، 59] وَهَؤُلاءِ الطُّغَاةُ المُجرِمُونَ، الَّذِينَ فَتَنُوا
المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَمَضَوا في ضَلالَتِهِم سَادِرِينَ ﴿ ثُمَّ لم يَتُوبُوا فَلَهُم عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُم عَذَابُ الحَرِيقِ
﴾ وَحِينَ نَصَّ - سُبحَانَهُ - عَلَى الحَرِيقِ عَذَابًا لَهُم مَعَ
أَنَّهُ مَفهُومٌ مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ، فَقَد أَرَادَ أَن يُطَمئِنَ
المُؤمِنِينَ، بِأَنَّهُم إِذَا لم يَتَمَكَّنُوا في الدُّنيَا مِن
عَدُوِّهِم، وَلم يَقدِرُوا عَلَى الدَّفعِ عَن إِخوَانِهِم أَو أَخذِ
حَقِّهِم، فَإِنَّ اللهَ الحَكَمَ العَدلَ مُنتَصِرٌ لِعِبَادِهِ بِعَذَابٍ
مِن جِنسِ مَا عُذِّبُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُ وَإِن كَانَ مِن جِنسِهِ اسمًا
وَظَاهِرًا، فَإِنَّ لَهُ مُسمًّى آخَرَ وَطَبِيعَةً تَختَلِفُ كُلِيًّا،
سَوَاءٌ في شِدَّتِهِ أَو في مُدَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَرِيقُ الدُّنيَا
بِنَارٍ يُوقِدُهَا الخَلقُ وَتَنتَهي بها الحَيَاةُ، أَو سِلاحٍ يَقتُلُ
في لَحَظَاتٍ وَتَنقَضِي بِهِ المُعَانَاةُ، فَإِنَّ حَرِيقَ الآخِرَةِ
بِنَارٍ يُوقِدُهَا الخَالِقُ القَوِيُّ العَزِيزُ، وَتَستَمِرُّ آبَادًا
لا يَعلَمُهَا إِلاَّ اللهُ، وَمَعَ حَرِيقِ الدُّنيَا رِضَا اللهِ عَنِ
المُؤمِنِينَ، وَجَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ وَفَوزٌ لهم
كَبِيرٌ، وَانتِصَارٌ لِعَقِيدَتِهِم وَبَقَاءٌ لها في قُلُوبِ مَن
وَرَاءَهُم، وَأَكرِم بِهِ مِن فَوزٍ وَانتِصَارٍ!! وَأَمَّا حَرِيقُ
الآخِرَةِ، فَمَعَهُ غَضَبُ الجَبَّارِ وَنِقمَتُهُ، وَارتِكَاسُ
أَصحَابِهِ الذَّمِيمُ في قَاعِ الجَحِيمِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ -
وَلا يَهُولَنَّكُم مَا تَرَونَهُ مِن بَطشِ الطُّغَاةِ بِالمُؤمِنِينَ في
رُقعَةٍ مِنَ الأَرضِ مَحدُودَةٍ أَو فَترَةٍ مِنَ الزَّمَانِ قَصِيرَةٍ،
فَإِنَّمَا هُوَ بَطشٌ صَغِيرٌ وَإِن كَبُرَ، وَمَكرٌ ضَعِيفٌ وَإِن
عَظُمَ، وَكَيدٌ هَزِيلٌ وَإِن سَمُنَ، وَالبَطشُ الشَّدِيدُ بَطشُ اللهِ
الجَبَّارِ، وَالقُوَّةُ للهِ العَزِيزِ ذِي الانتِقَامِ، الَّذِي لَهُ
مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَيَفعَلُ مَا يُرِيدُ. وَإِنَّ مَا
تَرَونَهُ مِن نَصرِ المُؤمِنِينَ حِينًا بِأَجسَادِهِم وَمَبَادِئِهِم،
وَحِينًا بِحِفظِ الإِيمَانِ في قُلُوبِهِم وَتَثبِيتِهِم عِندَ الفِتَنِ
وَإِن أُخِذَت أَجسَادُهُم، وَحِينًا بِأَخذِ أَعدَائِهِم أَخذَ عَزِيزٍ
مُقتَدِرٍ، وَحِينًا بِإِمهَالِهِم لِليَومِ المَوعُودِ وَفَضحِ
مَبَادِئِهِمُ الهَشَّةِ وَإِظهَارِ كَذِبِهِم وَخِدَاعِهِم، إِنَّ كُلَّ
ذَلِكَ لَوَاقِعٌ بِتَقدِيرِ اللهِ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ، وَفِيمَا اختَارَهُ
- تَعَالى - لِعِبَادِهِ الخَيرُ لَهُم وَإِنْ آلَمَهُم، فَهُوَ أَرحَمُ
بِهِم مِن أَنفُسِهِم، وَهُو - سُبحَانَهُ - القَائِلُ: ﴿ كُتِبَ
عَلَيكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرهٌ لَكُم وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا
وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم
وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] وَالقَائِلُ: ﴿ وَتَوَدُّونَ
أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ لَكُم وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ
الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ البَاطِلَ وَلَو كَرِهَ المُجرِمُون ﴾ [الأنفال: 7، 8] وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى -
وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ فَارجُوهُ
وَخَافُوهُ، وَانصُرُوهُ يَنصُرْكُم وَيُثَبِّتْ أَقدَامَكُم، وَاعلَمُوا
أَنَّهُ قَد كَانَ لأُولَئِكَ المُؤمِنِينَ مِن أَصحَابِ الأُخدُودِ أَن
يُجَامِلُوا قَومَهُم، فَيَنجُوا بِأَجسَادِهِم في الدُّنيَا وَيَحفَظُوا
أَروَاحَهُم في دَارِ الفَنَاءِ، وَيَتَنَازَلُوا في المُقَابِلِ عَن
عَقِيدَتِهِم أَو يَترُكُوا شَيئًا مِنهَا، وَيُفَرِّطُوا في إِيمَانِهِم
أَو يَتَرَاجَعُوا عَن إِسلامِهِم، وَلَكِنَّهُم بِتَثبِيتِ اللهِ لهم
وَرَبطِهِ عَلَى قُلُوبِهِم، لم يَشَاؤُوا أَن يَقبَلُوا الدَّنِيَّةَ في
دِينِهِم، أَو يَرضَوا أَن يُسَيطِرَ الطُّغَاةُ عَلَى أَروَاحِهِم كَمَا
تَمَكَّنُوا مِن أَجسَادِهِم، لِعِلمِهِم وَيَقِينِهِم أَنَّ الأَجسَادَ
وَإِنِ احتَرَقَت وَعُذِّبَت في دُنيَاهَا ثم فَنِيَت، فَسَيَبعَثُهَا
اللهُ لِتَنعَمَ بِالفَوزِ الكَبِيرِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَأَمَّا
الأَروَاحُ فَإِنَّهَا إِذَا دُسِّيَت بِالكُفرِ وَدُنِّسَت بِالشِّركِ
وَخَبُثَت بِمُخَالَفَةِ مَا يُرِيدُهُ اللهُ، فَقَد خَابَ أَصحَابُهَا
وَخَسِرُوا، إِذْ سَتَخرُجُ مِن تِلكَ الأَجسَادِ رَغمًا عَنهَا طَالَ
الزَّمَانُ أَم قَصُرَ، وَسَتَقدُمُ عَلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ،
وَمِن ثَمَّ فَقَد آثَرُوا الفَوزَ الكَبِيرَ وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ مَعَ
العَذَابِ وَالحَرقِ وَالتَّقتِيلِ وَالتَّنكِيلِ، وَتَمَسَّكُوا
بِعَقِيدَتِهِم وَحَافَظُوا عَلَى إِيمَانِهِم، لِيُعلِنُوا لِكُلِّ
البَشَرِ وفي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَنَّ صَاحِبَ الإِيمَانِ لا
تَضُرُّهُ فِتنَةٌ وَإِن عَظُمَت، وَلا تَزِيدُهُ شِدَّةُ العَذَابِ
الدُّنيَوِيِّ إِلاَّ تَمَسُّكًا بِعَقِيدَتِهِ الصَّحِيحَةِ وَثَبَاتًا
عَلَيهَا ﴿ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُون ﴾ [يوسف: 21] فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ - وَكُونُوا مِن حِزبِهِ فَإِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ ﴿ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ﴾ [المائدة: 35].
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق