الحمد لله الباطن الظاهر، عالم البادي
والساتر، وأشهد ألا إله إلا الله المولى الناصر والعظيم القاهر، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله الطاهر، صلى الله عليه وعلى صحبه وسلم تسليماً كثيراً
إلى يوم بلْو السرائر.
أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.......... ﴾ [البقرة: 278].
أيها المؤمنون!
إن سألتم عن أعظم عمل يلقى به العبدُ
ربَّه، ويُكسبه قربه ووده، وتكون به العبادة ثقيلة في الميزان؛ فذلكم
الإخلاص الذي لأجله خلقت الدنيا ودرج عليها الثقلان. قال الله - تعالى -: ﴿
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]. وأجلُّ
سبيل للوصول لهذا المقام العزيز اتخاذ الخبايا من صالح العمل؛ وذلك بأن
تكون هذه الصالحات سراً بين العبد وربه؛ قد سلمت وصمة الابتداع وملاحظة
الخلق وآفة العجب. وذلك ما انعقد عليه علم السلف الصالح، وبه كانت وصاتهم،
يقول الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: « من استطاع منكم أن يكون له
خبء من عمل صالح فليفعل »، وقال عبدالله بن داود: " كَانُوا يستحبون أَن
يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها "، يقول
الحسن البصري: " إنْ كانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا
يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فقُه الْفِقْهَ
الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ
لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّر
وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ. وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ،
فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا "، وقال أبو حازم: «اكْتُمْ حَسَنَاتِكَ
كَمَا تَكْتُمُ سَيِّئَاتِكَ».
أيها المسلمون!
السرائر مدار الأعمال؛ ولذا كان عليها الابتلاء يوم هتك الأستار: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
﴾ [الطارق: 9]، والخبيئة الصالحة أرجاها جزاءاً وأعظمها ثواباً؛ فقد قال
النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال - رضي الله عنه -: « يَا بِلاَلُ
حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ؛ فَإِنِّي
سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ»، قَالَ: مَا
عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي
سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا
كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ " رواه البخاري ومسلم. قال ابن حبان: " قطب
الطاعات للمرء في الدنيا هو إصلاح السرائر، وترك إفساد الضمائر ".
وبالخبيئة الصالحة الرفعة ووضع القبول؛ قال عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -
رضي الله عنه -: « لَوْ أَنَّ عَبْدًا دَخَلَ بَيْتًا فِي جَوْفِ بَيْتٍ
فَأَدْمَنَ هُنَاكَ عَمَلًا أَوْشَكَ النَّاسُ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ،
وَمَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ رِدَاءَ عَمَلِهِ
إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ »، وقال ابن مسعود - رضي
الله عنه -: «أَسِرُّوا مَا شِئْتُمْ، مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةَ خَيْرٍ
أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، وَمَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةَ شَرٍّ
أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا »، وذكر الإمام أحمد بن حنبل يوماً ابن
المبارك فقال: " ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له "، وقال ابن الجوزي: "
والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشّع في نفسه ولباسه،
والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك! ورأيت من يلبس فاخر الثياب،
وليس له كبير نفل، ولا تخشّع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب؛
فوجدته السريرة! ". والخبيئة الصالحة من أقوى أسباب تفريج الكرب؛ وذاك ما
تشي به حادثة أهل الغار؛ ففي ختمها من رواية القضاعي قول مروي عن رَسُول
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ تَكُونَ
لَهُ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ ». وبالخبيئة الصالحة درك
حلاوة الطاعة والتلذذ بها، قال بشر بن الحارث: « لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ
الْآخِرَةِ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهَ النَّاسُ ». والخبيئة الصالحة
سبب لحسن الخاتمة، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ،
وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» رواه
البخاري ومسلم، وذكر الحافظ عبد الحق الإشبيلي أَن رجلاً من المنهمكين
فِي الْفساد مَاتَ فِي نواحي الْبَصْرَة، فَلم تَجِد امْرَأَته من يعينها
على حمل جنَازَته؛ إِذْ لم يدر بهَا أحد من جِيرَانه؛ لِكَثْرَة فسقه،
وتحامي النَّاس لَهُ. فاستأجرت امْرَأَته حمالين يحملونه إِلَى الْمصلى،
فَمَا صلى عَلَيْهِ أحد! فَحَمَلُوهُ إِلَى الصَّحرَاء ليدفنوه بهَا،
وَكَانَ بِالْقربِ من الْموضع جبل فِيهِ رجل من الزهاد الْكِبَار، فَنزل
ذَلِك الزَّاهِد للصَّلَاة عَلَيْهِ؛ فانتشر الْخَبَر فِي الْبَلَد،
وَقَالُوا: نزل فلَان ليُصَلِّي على فلَان؛ فَخرج النَّاس فصلوا عَلَيْهِ
مَعَ الزَّاهِد وَجعلُوا يتعجبون من صلَاته عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُم:
إِنِّي قيل لي فِي الْمَنَام: " انْزِلْ إِلَى الْموضع الْفُلَانِيّ ترى
فِيهِ جَنَازَة رجل لَيْسَ مَعهَا أحد إِلَّا امْرَأَته فصل عَلَيْهِ؛
فَإِنَّهُ مغْفُور لَهُ "؛ فَزَاد تعجب النَّاس، فاستدعى الزَّاهِد زَوجته
فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك وَكَيف كَانَت سيرته؟ فَقَالَت: كَانَ كَمَا
سَمِعت؛ كَانَ طول النَّهَار فِي الماخور مشتغلاً بِشرب الْخمر، فَقَالَ:
انظري، هَل تعرفين لَهُ شَيْئا من أَفعَال الْخَيْر؟ قَالَت: لَا وَالله،
إِلَّا أَنه كَانَ يفِيق فِي كل يَوْم من سكره عِنْد صَلَاة الصُّبْح
فيبدل ثِيَابه وَيتَوَضَّأ وَيُصلي الصُّبْح ثمَّ يعود إِلَى مَا هُوَ
عَلَيْهِ فيشتغل بشربه ولهوه، وَكَانَ لَا يَخْلُو بَيته من يَتِيم أَو
يتيمين يفضله على وَلَده، وَكَانَ يفِيق فِي أثْنَاء سكره فيبكي وَيَقُول:
إلهي، أَي زَاوِيَة من زَوَايَا جَهَنَّم تُرِيدُ أَن تملأها بِهَذَا
الْخَبيث يَعْنِي نَفسه؟! ودمعة الخشية الخفية سبب لاستظلال العبد في ظل
الله - سبحانه - يوم لا ظل إلا ظله كما جاء في الصحيحين.
أيها الأحبة!
إن قدر الشيء بقدر ما حلّ فيه، والمعنى
الذي جعل الله به للخبيئة الصالحة هذا القدرَ العليَّ صفاءُ حق الله فيها
بالتوحيد والإخلاص والصدق؛ فلم يكن للنفس ولا للخلق حظ فيها؛ ولذا عظمت
عند الله وإن دقت في ميزان المادة والبشر. يقول ذو النون: " لَمْ أَرَ
شَيْئًا أَبْعَثَ لِطَلَبِ الْإِخْلَاصِ مِنَ الْوَحْدَةِ؛ لِأَنَّهُ
إِذَا خَلَا لَمْ يَرَ غَيْرَ اللهِ، وَإِذَا لَمْ يَرَ غَيْرَ اللهِ لَمْ
يُحَرِّكْهُ إِلَّا حُكْمُ اللهِ، وَمَنْ أَحَبَّ الْخَلْوَةَ فَقَدْ
تَعَلَّقَ بِعَمُودِ الْإِخْلَاصِ، وَاسْتَمْسَكَ بِرُكْنٍ كَبِيرِ مِنْ
أَرْكَانِ الصِّدْقِ ". وقال أيوب السختياني: " والله! ما صدق عبد إلا سره
ألا يُشعر بمكانه ".
وإذا أظهرتَ شيئاً حسناً
فليكن أحسنَ منه ما تُسِرّْ
فمسِرُّ الخيرِ موسومٌ به
ومُسِرُّ الشّرِّ موسومٌ بشرّْ
|
هذا، ولا يستثنى من أولوية إخفاء العبادة
إلا ما ورد تشريعها فعلاً في العلن كصلاة الجماعة والحج، أو كان في
إظهارها مصلحة راجحة على مصلحة الإسرار وأمن صاحبها من آفة الرياء.
بارك الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله..
أيها المؤمنون!
من رام سلوك جادة الصدق المفضية لدوحات
البر فليلذْ بسرائر الصالحات، مستصحباً في تذليل عِقباها تدبُّرَ معاني
الإخلاص، وتَذَكُّرَ فضل عبادة السرّ وإخفاء الطاعة، والادّراعَ بالمجاهدة
وتقليل العمل في عينه، واستشعارَ فضل الله عليه وتقصيرِه في حق ربه،
والالحاحَ بالدعاء أن يبلِّغه الله نزل الصديقين، ومطالعةَ أخبار أهل
السرائر الصالحة؛ فينالُ من حبهم أو شبههم ما يدنيهم من حالهم أو يذكي
جذوة الإخلاص في قلبه؛ فيكون من المخبتين. وللقوم في ذلك أخبار وأسرار؛
قال عبد الواحد بن زيد: " كان الحسن إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به،
وإذا نهي عن شيء كان من أترك الناس له، ولم أر أحداً قط أشبه سريرة
بعلانية منه". وقال محمد بن واسع: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَبْكِي
عِشْرِينَ سَنَةً وَامْرَأَتُهُ مَعَهُ لَا تَعْلَمُ بِهِ»، وصَامَ
دَاوُدُ بن أبي هند أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَعْلَمُ بِهِ أَهْلُهُ،
وَكَانَ خَرَّازًا يَحْمِلُ مَعَهُ غَدَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ
فَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِي الطَّرِيقِ وَيَرْجِعُ عَشِيًّا فَيُفْطِرُ
مَعَهُم. وكان ابن المبارك يضع اللثام على وجهه في الجهاد؛ لئلا يُعرف.
وكَانَ أَيُّوْبُ السختياني فِي مَجْلِسٍ فَجَاءتْهُ عَبْرَةٌ فَجَعَلَ
يَمْتَخِطُ وَيَقُوْلُ: مَا أَشَدَّ الزُّكَام. وحاصر مسلمة حصناً فندب
الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه الله
عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت
الأذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلّا جاء. فجاء رجل فقال: استأذن لي
على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة
فأخبره عنه، فأذن له فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألّا
تسوّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن
هو، قال: فذاك له، قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال:
اللهم اجعلني مع صاحب النقب. وكان عبد الغني المقدسي يصلي من الليل
وَيَحْمِل في ليله مَا أَمكنه إِلَى بيُوت الأَرَامل وَاليتَامَى سرّاً.
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق