ان
العلم أغلى ما يطلب في هذه الحياة، فلا سبيل إلى معرفة الله، ولا سبيل إلى
الوصول إلى رضوان الله في الدنيا والآخرة إلا بالعلم الشرعي... ولم يأمر
الله نبيه بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، كما قال تعالى آمراً نبيه
المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]. ورفع الله قدر أهل العلم فقال سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
﴾ [المجادلة: 11]. وفي الحديث الذي رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة
وغيرهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: «مَن سَلَكَ طريقا يَطلُبُ فيه علما: سَلَكَ الله بِهِ طريقا من
طُرُقِ الجنَّة، وَإِنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضى لطالبِ
العلم، وَإِنَّ العالمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السمواتِ ومَن في
الأرضِ، والحِيتَانُ في جَوفِ الماء، وَإِن فَضْلَ العالمِ على العَابِدِ
كَفضل القمر ليلة البدرِ على سائرِ الكَوَاكِب، وَإِن العُلماءَ وَرَثَةُ
الأنبياء، وَإِنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دِينارا ولا دِرْهما،
وَرَّثُوا العلم، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظّ وَافِر».. وهذا علي -رضي
الله عنه- يوصي تلميذه فيقول له: يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ: الْعِلْمُ
خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ،
الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَالُ يَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ،
الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَصَنَعَةُ الْأَمْوَالِ
تَزُولُ بِزَوَالِهِ، مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ،
وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ،
وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ) العلم يرفع بيتا لا عماد
له.. والجهل يهدم بيت العز والشرف.
فما دمنا على أبواب العام الدراسي الجديد
أحببت ان أقف وقفة مهمة مع الآباء وأولياء الأمور... مع من لهم الدور
الكبير في نجاح العملية التعليمية، فيا أيها الآباء الكرام ويا أولياء
الأمور افتحوا قلوبكم وصدوركم إلى ما ينفعكم وينفع أولادكم في الدنيا
والآخرة: أقول لكم: أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها، فليست مسؤولية
الآباء توفير ما يحتاجه أبناؤهم من الملابس وغيرها، ولكن دورهم أعظم
وأكبر...فمسؤولية الأب الأولى هي ان يحرص على أدب أبنائه، ان يحرص على
إرضاعهم الأدب قبل العلم، فلا قيمة للعلم بدون أدب.
ولو تصفحت التاريخ لوجدت كيف أن سلفنا
الصالح كانوا يحرصون كل الحرص على تعليم أبنائهم الأدب قبل العلم، فهذا احد
الصالحين من هذه الأمة يوصي ولده بوصية عظيمة فيقول فيها: (يا بني:
تعلّم تسعة وتسعين من الأدب واجعل الباب الأخير من العلم)... ويقول الإمام
ُرويم بن احمد البغدادي) (رحمه الله)
في بعض وصاياه (يا بنى: اجعل علمك ملحا وأدبك دقيقا) أي اجعل الكثرة في
تعلمك من الآداب والأدب واجعل علمك ما هو ضروري ونافع فالأدب اجمع ومن
العلم ما هو انفع، وهذه أم الإمام مالك (رحمه الله ورحمها) لما كان صغيرًا ألبسته أحسن الثياب ثم قالت له: (يا بني، اذهب إلى مجالس ربيعة واجلس في مجلسه، وخذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه).
إن وصايا الآباء لأبنائهم بتعلم الأدب قبل
العلم أنشئت أجيالا يخلف بعضها بعضًا على الأدب الرفيع مع المعلمين، حتى
يقول الإمام الشافعي رحمه الله وهو تلميذ للإمام مالك: يقول: "كنت أصفح -
يعني أقلب - الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحًا دقيقًا هيبة له لئلا
يسمع وقعها"، وهذا الربيع بن سليمان رحمه الله وهو من تلاميذ الشافعي يقول:
"والله، ما تجرأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له"... فأين الآباء في دنيا اليوم من هذه الوصايا؟ أين الآباء الذي يحرصون على تعلّم أبنائهم الأدب والأخلاق الحميدة؟
ثم اذكر الآباء بحقوق المعلمين
والمعلمات....فأقول لهم: اغرسوا في نفوس أبنائكم حبّ معلميهم واحترامهم
وتقديرهم كما فعل سلفنا الصالح (رحمهم الله تعالى). هذا هارون الرشيد الذي
حكم نصف العالم والذي كان يخاطب الغمام فيقول: (انطلق حيث شئت فان خراجك
سوف يأتيني)... يطلب من الإمام العالم الأصمعي أن يؤدب له ولديه وان
يعلمهما، وفي ذات يوم مر هارون الرشيد فرأى الأصمعي يغسل قدمه والذي يصب له
الماء هو ابنه، ابن هارون هو الذي يصب للأصمعي الماء حتى يغسل الأصمعي
قدمه.. طلب هارون الرشيد الأصمعي وقال له: إنما طلبناك حتى تعلم ولدي وان
تؤدبهم وكان يجدر بك أن تأمر ولدي أن يصب الماء بيد وان يغسل قدمك باليد
الأخرى... الله اكبر.. أين هذه التربية؟ أين هذه الأخلاق؟ أين هذه
الآداب؟.. بل اسمع إلى هذه المواقف العظيمة التي تبين لنا وفاء الطالب مع
معلمه.. والأدب العالي مع من أحسن إليه. يقول الإمام احمد بن حنبل: (ما بت
منذ ثلاثين سنة إلا وأنا استغفر للشافعي، وادعوا له)... وهذا تلميذ للإمام
أبي حنيفة يقول: "والله إني لأدعوا لأبي حنيفة قبل والدي في الصلاة". أي
وفاء هذا..؟ قبل الوالدين!! وليس هذا بمستغرب فلقد تعلمه من أستاذه أبي
حنيفة، فلقد قال: "ما مددت رجلي نحو دار أستاذي حماد وفاء له، وان بين بيتي
وبيته لسبع سكك".
ترى أي مكانة للمدرس في واقعنا؟
أليس اليوم من أولياء الأمور ومع الأسف الشديد من يتكلم بكلام فيه إنقاص
من قدر المعلم أو المعلمة أمام مسامع الأبناء، وأمام مسامع الطلاب... بالله
عليكم إذا كانت هذه أخلاق الآباء وأولياء الأمور مع المعلمين والمعلمات..
ماذا يبقى للقدوة؟! وماذا يبقى للتعليم؟! وماذا يبقى لهيبة العلم والمعلم
والتعليم؟!
لما أساء بعض الآباء في قلة تقديرهم
للمعلمين نتج لنا جيل يلعن المعلم ويضرب المعلم ويتلف ممتلكات المعلم.
أترجون أن نعلو على الأمم وهذه أخلاقنا مع من يعلمون أبناءنا؟! حتى وإن
أخطأ المعلم، أو كان هناك معلم سيئ ونموذج سيئ، فلا ينبغي هتك ستار الهيبة
والاحترام الذي له؛ لأن في إهانة المعلم إهانة للعلم والتعليم. إذا كان
الطالب يأتي للمدرسة وهو ينظر للمعلم أنه ليس بشيء لما استقرّ في ذهنه تجاه
هذا المعلم، وإذا كان المعلم يرى من سوء أدب طالبه وسوء أدب والده فأي خير
نرجوه من التعليم؟!
إن على ولي الأمر...
والأب الناصح الشفيق.. إذا رأى ما يزعجه أو ما يلاحظه من خلل فليس له إلا
التوجه للمعلم ومصارحته بما في نفسه من ملاحظات ومكاشفات، أما أن يجلس الأب
يلعن المعلم والأم تلعن المعلمة أمام الأبناء فإني أقولها لكم صريحة: لا
ترجوا من التعليم ومن أبنائكم شيئًا.
ثم من منا الكامل؟ وأنت بين أبنائك وبناتك
كم تظلم، وكم تؤذي، وكم تضرب، وكم تجاوز من حدود الله جل وعلا؟ ولكنك تنسى
الإساءة في عظيم إحسانك إلى أبنائك، فكيف بهذا المعلم الذي أقام لابنك
وعلمه وأدبه، ويريد الخير له، فاحتسبوا رحمكم الله في إكرام المعلمين
والمعلمات:
إن المعلم والطبيب كلاهما
لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاقنع بدائك إن جفوت طبيبها
واقنع بجهلك إن جفوت معلماً
|
أكرموا المعلمين والمعلمات، واغرسوا في قلوب الأبناء والبنات حبهم وتوقيرهم وإجلالهم والصبر على أذيتهم يكن لكم في ذلك خير كثير.
وأذكرك يا ولي الأمر.. وكل من لا يحترم
صاحب العلم.. أذكركم بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: (ثلاثة
لا يستخف بحقهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط)
رواه الطبراني.
ثم يا أيها الآباء، أعينوا أبناءكم على
مشاقّ العلم ومتاعبه، هذه أم سفيان الثوري رحمة الله عليه وعليها، يا لها
من أم صالحة، توفي أبوه وكان صغير السن حدثا، فنشأ يتيماً لا أب له، ولكن
الله رزقه أماً صالحة كانت عوضاً له عن أبيه، أم وأي أم هذه الأم الصالحة،
لما توفي زوجها تفكر سفيان رحمه الله في حاله وحال إخوانه وحال أمه فأراد
أن يطلب العيش والرزق، وينصرف عن طلب العلم، فقالت له تلك الأم الصالحة
مقالة عظيمة مباركة قالت له: أي بني اطلب العلم أكفك بمغزلي، فانطلقت الأم
تغزل صوفها وتكافح في حياتها حتى أصبح سفيان علماً من أعلام المسلمين،
إماماً من أئمة الشريعة والدين. وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة الصالحة
أعظم الله ثوابها عن المسلمين.
أيها الأب الكريم:
ولدك هذا تجارة رابحة، ورصيد لا ينفذ من
ميزان حسناتك يوم القيامة إن سخرته لطلب العلم وخاصة العلم الشرعي والتخلق
بالأخلاق الإسلامية... كان الصالحون يوصون أولادهم بمجالسة اهل العلم فهذا
لقمان الحكيم يقول لابنه: يا بني: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله
يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيى الله الأرض الميتة بوابل السماء.
فأيها الأب المبارك:
إن فاتك حفظ كتاب الله عز وجل، وتعلم العلوم الشرعية، فلا تحرم أبناءك وبناتك من ذلك.
وتذكر أيها الأب المقصر في حق ولدك: أنه
لن ينصرف أحد من الموقف يوم القيامة وله عند أحد مظلمة، يفرح الأبناء أن
يجدوا عند أبيهم مظلمة، تفرح الزوجة أن تجد عند زوجها مظلمة، يأتي الأبناء
يوم القيامة يُحاجّون آباءهم بين يدي الله قائلين: يا ربنا خذ حقنا من هذا
الأب الظالم الذي ضيعنا عن العمل لما يرضيك، وربّانا كالبهائم وأوردنا
المهالك، والذي ما من مفسدة إلا وجعلها بين أيدينا وما من مهلكة إلا
وأدخلها علينا، فماذا سيكون الجواب حينئذ أيها الأب الحنون؟
يا أيها الآباء، أقولها لكم فاحفظوها:
أنتم محتاجون لأبنائكم إذا دخلتم قبوركم،
فإحسانك لتربية ابنك هو عمل صالح مستمر لك بعد موتك، إن الصلاة والصيام
والذكر والقرآن وكل خير زرعته في أبنائك لهو أُجور لك بعد موتك، والعكس
بالعكس، فكل شر كنت سببًا في تعليمه لأبنائك من خلالك أو من خلال فضائيات
سمحت بها أو أحضرتها لهي سيئات تصبّ في ميزانك بعد موتك، فاختاروا - أيها
الآباء - ما شئتم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله
رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة)).
اللهم اجعلنا ممكن يستمعون القول فيتبعون أحسنه... أقول قولي هذا واستغفر الله
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق