استمع للقرآن الكريم

صلة الرحم صلة الرحم



تناولنا في الجزء الأول من سلسلة "من محاسن الدين الإسلامي"، ضرورة العناية بالمساكين والضعفاء، وحبهم، والدنو منهم[1]. ثم عرفنا في الجزء الثاني ما يتعلق بأهمية تعظيم نعمة الله والرضا بعطائه[2]. وكان انطلاقنا في ذلك من أثر جليل عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه-، حيث قال:"أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِى، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَداً شَيْئاً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ (وفي رواية: فإنها كنز من كنوز الجنة)" رواه الإمام أحمد، وهو في الصحيحة.

وكلامنا اليوم - إن شاء الله - عن الميزة الثالثة التي ذكرت في هذه الوصايا الجليلة، وهي: صلة الرحم، حيث قال أبو ذر - رضي الله عنه-:"وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ".

وهذا جانب عظيم من الجوانب الاجتماعية التي اعتنى بها الإسلام أيما عناية، تحقيقا للوشاجة المتينة التي يجب أن تربط الناس، لردم هوة التباعد، وطرد مغبة التنائي والتدابر، فالمسلم أخو المسلم، يعطيه إذا احتاج، ويؤنسه إذا استوحش، ويواسيه إذا اغتم، ويعوده إذا مرض، ويعضده إذا عجز.

ولهذه الأهمية البالغة، كانت صلة الرحم من أعظم المرتكزات التي بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجلها.  قال -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ فقال: وَبِأَىِّ شَىْءٍ أَرْسَلَكَ؟. قَالَ:"أَرْسَلَنِى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ" مسلم.

بل سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان فقال:"صلة الرحم"، وسئل عن أبغض الأعمال إلى الله تعالى بعد الإشراك بالله فقال:"قطيعة الرحم" صحيح الترغيب.

فيا من له أبوان، وله جد وجدة، وله أعمام وعمات، وله أخوال وخالات، وغيرهم ممن تربطه به رحم، هل علمت أن صلة الرحم، هي صلة بالله قبل أن تكون صلة بعباد الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إن الرحم شُجنة من الرحمن (قرابة مشتبكة كاشتباك عروق الشجر)، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته" البخاري.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ:["إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ:"نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟" قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ:"فَهْوَ لَكِ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾] متفق عليه.

وهل علمت أن دخولك الجنة متوقف على صلتك لرحمك؟. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ" مسلم.

وهل علمت أن قبول الأعمال منوط بحرصك على صلة الرحم؟. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم" أحمد وهو في صحيح الترغيب.

وهل علمت أن الرحم تكون أمامك يوم القيامة، لن يُقضى لك حتى تشهد لك أو عليك. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"كل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها، تشهد له بصلة إن كان وصلها، وعليه بقطيعة إن كان قطعها" صحيح الأدب المفرد.

بل إن أثرها حاصل في الدنيا قبل الآخرة، فكم من مبتلى لا يعرف سبب ابتلائه، وكم من مصاب  لا يدري مصدر مصيبته. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"ليس شيء أُطِيع الله فيه أعجلَ ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجلَ عقاباً من البغي وقطيعة الرحم" صحيح الجامع.

ويقول -صلى الله عليه وسلم-:"من قطع رحما، أو حلف على يمين فاجرة، رأى وباله قبل أن يموت" صحيح الجامع.

وهل علمت أن صلة الرحم سبيل لتكثير الرزق، وطول العمر، سواء كان طولا معنويا بالبركة، أو حقيقيا على ما بينه العلماء؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره (وفي رواية: في أجله)، فليصل رحمه" متفق عليه.

ويقول -صلى الله عليه وسلم-:"صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار" أحمد وهو في صحيح الترغيب. ويزاد على ذلك أن يزرع محبة الواصل في أهله. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إن صلة الرحم محبة في الأهل، مَثْراة في المال، مَنسأَة في الأثر" صحيح الجامع.

وهل علمت أن العقلاء كانوا لا يدعون الله إلا في مجلس ليس فيه قاطع رحم، مخافة أن ترد دعوتهم بسببه؟ يقول أبو هريرة - رضي الله عنه-:"أُحرِّجُ على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا". وكان ابن مسعود - رضي الله عنه- جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح، فقال:"أُنْشِدُ الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا، فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا، وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَةٌ (مغلقة) دونَ قاطِع الرَّحم".

وأوصى عمر بن عبد العزيز ميمون بن مهران فقال:"ولا تُصافِ قاطع رحم، فإن الله - عز وجل - لعنه في آيتين من كتاب الله تبارك وتعالى".

لكل هذا، كانت صلة الرحم واجبة. قال القاضي عياض:"لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة.. ولكن الصلة درجات، بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتِها بالكلام وبالسلام".

الخطبة الثانية
وإذا كان أعلى أنواع الصلة يكون بالتفقد والزيارة البدنية الفعلية، فإنها تحصل أيضا بالتناصح، والإيثار، والانصاف، وبالبشاشة والوجه الطلق، وبالهدية، وبكف الأذى. قال الإمام النووي - رحمه الله -:"وأما صلة الرحم، فهي الإحسان إلى الاقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك".

ومن أعظم أنواع الصلة، أن تبادر إلى زيارة من لا يبادلك الزيارة، والإحسان إلى من لا يبادلك الإحسان، فإن قَصَّر هو في جانبك، فلا تضيع أنت حقه فيك. قال تعالى: ﴿ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِيَ قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِى، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ:"لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ (الرماد الحار)، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ (معين عليهم) مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ"مسلم.

ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعتْ رحمه وصلها" البخاري.
ولا يستوي في الحكِم عبدانِ: واصلٌ
وعبدٌ لأرحامِ القرابةِ قاطعُ

قد تجد من أخيك جفوة، وقد تعاني من أبيك غلظة، وقد تلاقي من أختك صدودا، وقد ينتابك من عمك أو خالك قسوة، وقد تفجؤك من جارك نبوة، فلا تقابل الجفاء بالجفاء، ولا الصدود بالصدود، ولا الهجران بالهجران. ولذلك سمعنا في قول أبي ذر - رضي الله عنه-:"وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت"، أي: وإن قطعت.

عن جبير بن مطعم أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- يقول على المنبر:"تعلموا أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم، لأوزعه ذلك عن انتهاكه" صحيح الأدب المفرد.
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمِّي لَمُختلفٌ جِدّا
إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم
قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا
وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ
وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا

ومن أعظم الصلة - أيضا - تفقد أهل أبيه وأصحابه. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّه، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ. فقال له أصحابهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:"إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:"إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ، صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ" مسلم.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/1067/41690/#ixzz2hAZ6kmaF
المرجو نشر هذا الموضوع

Sharing Widget bychamelcool


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق المحفوضة لدى كلفين للمعلوميات 2013 - 2014 | © كلفين للمعلوميات عدد الزوار المتواجدين حاليا بالموقع

back to top