حجوا قبل أن لا تحجوا
الحمد لله العليم القدير؛ جعل
البيت مثابة للناس وأمنا، وشرع الحج إليه فرضا ونفلا، ورتب عليه جزاء
وأجرا؛ فأمَّن قاصديه، وحرّم الإلحاد فيه.. بارك حسناته، وشدد في سيئاته؛
فالصلاة فيه مضاعفة، والخطيئة فيه مغلظة؛ لحرمة المكان، وفي الحج تنضم
إليها حرمة الزمان؛ حيث الأشهر الحرم؛ نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا
مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أمر بتأسيس البيت على
التوحيد، فوفد إليه المؤمنون من كل فج عميق؛ لإقامة ذكره، وشكره وحمده؛ فهو
المحمود في كل الأحوال، ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛
أمر الناس بعبادة ربهم، وبلَّغهم دينهم، وبين لهم مناسكهم، وخطب الناس
قائلا «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ،
فَحُجُّوا» ثم لما حج بهم هتف فيهم فقال «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ،
فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» فلم
يحج بعدها إذ لحق بالرفيق الأعلى بعد ثلاثة أشهر من حجته التي سميت حجة
الوداع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واذكروه كما
هداكم، واشكروه على ما أعطاكم؛ فإنه يشرع الشرائع لمصالحكم، وينقلكم من
موسم إلى آخر لصلاح قلوبكم، وزكاة نفوسكم، واستقامتكم على دينكم ﴿ الحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا
فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
أيها الناس:
كونُ الحج فرضا على الأنام، وركنا من
أركان الإسلام، أمر معلوم من الدين بالضرورة، لا ينازع فيه مسلم، ولا يماري
فيه مؤمن.. ولا يجهله طفل صغير، ولا أعرابي سكن الصحراء وهجر الحاضرة؛ لأن
أركان الإسلام هي أول ما يتعلمه من دخل الإسلام، وهي أول ما يلقنه الطفل
في دراسته؛ ولذا تشوف المسلمون للحج في مختلف الأقطار، ومن مختلف الأجناس،
رجالا ونساء، صغارا وكبارا، حتى إنك لتسمع في أيام الحج عجيج الأطفال
بالتلبية في البيوت في مختلف الأمصار تأثرا بمشاهد الحج ومناسكه العظام،
وشعائره الكبار.. وكم من قاعد عن الحج لشغل أو كسل أثر فيه مشهد الحجيج فما
ملك نفسه حتى عطل ما هو فيه، ولبس إحرامه ولحق بركب الحجيج، وأخبار ذلك
متواترة، وقصصه متضافرة، وفي كل عام يحج أناس ما ظنوا أنهم يحجون؛ فيا لله
العظيم كم في شعائر الحج من مرغبات فيه؟! وكم في جزائه من جابذ إليه؟! وكم
في شعار التلبية من باعث عليه!! فلا يُلام من إذا سمع الإهلال بالتوحيد خشع
قلبه، واقشعر جلده، وسحت بالدمع عينه؛ فإنه إهلال للخالق بالألوهية، وقصد
بيته للعبودية ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
ولكن جمعا من المسلمين حال بينهم وبين
أداء فريضة الحج حوائل وما هي بحوائل، ومنعتهم موانع وما هي بموانع، إن هو
إلا تزيين الشيطان، وتسويف الإنسان، وكم ضاعت الأعمار في سوف أفعل وسوف
أفعل.
يا من شغلته الدنيا عن فريضة الحج، وأكلت
سوف من عمره عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين أو خمسين.. كيف تمر في تلاوتك
للقرآن على قول الله تعالى ﴿ وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97] فتهنأ بنومك ولما تقض فرضك ولا عذر لك؟!
جعل الله تعالى الحج فرضا لازما عليك..
فبم تجيب الله تعالى حين أخرت فرضه، وقدمت عليه غيره؟! فاللام في قوله
"ولله" لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى: ﴿عَلَى﴾
التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان علي
كذا، فقد أكده وأوجبه. فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب؛ تأكيدا
لحقه، وتعظيما لحرمته. ولا خلاف في فريضته، ولم يقل (ومن لم يحج)، وإنما
قال (ومن كفر) تغليظا على تاركي الحج، وذكر الاستغناء؛ وذلك دليل على المقت
والسخط، وقال (غني عن العالمين) ولم يقل (غني عمن لم يحج) فإنه إذا استغنى
عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل
فكان أدل على عظيم السخط. فالآية تدل على أن من مات ولم يحج وهو قادر
فالوعيد يتوجه عليه.. وعليه فإن من تهيأت له فرصة أداء فرض الحج ففوتها فهو
على خطر في دينه.
كم من مسوف للحج وهو قادر عليه أضحى عاجزا فقطَّع الندم قلبه، إما فقد المال الذي يبلغه، أو فقد الصحة التي يقوم بها..
ولو تأمل متأمل في فقراء من بلاد بعيدة
يدخرون مئونة الحج من رزقهم ورزق عيالهم عشرات السنين فلا يصلون البيت إلا
وقد هرموا لكنهم والله قد عاشوا مع الحج جُلَّ أعمارهم، والله تعالى يأجرهم
على صبرهم وجدِّهم وعزيمتهم، وليس حجهم كحج من وجد الجدة أو من قرب من
البيت الحرام، فكيف بمن وجدها ثم لم يحج، وربما كان قريبا من البيت
الحرام؟!
كم من امرأة رفضت الحج ومحارمها يعرضونه عليها، تؤجله المرة بعد المرة؛ حتى إذا فقدت المحرم حُرمت الحج فماتت بحسرتها؟!
ومن توفيق الله تعالى لمحارم النساء
تبرعهم بصحبة من لم يحج من محارمهم، وعدم النظر إلى أن فلانًا أولى بهن منه
أو أقرب إليهن؛ فإن من أعان ظعينة على قضاء فرضها كان له من الأجر مثل
أجرها، مع ما يكتب له من أجر حجه، فيرجع بأجر حجه وأجر من حج معه من
محارمه.. ويا له من فضل.. لو فقهه الرجال ما حجوا إلا بمحارمهم، ولما بقيت
امرأة إلا قضت فرضها.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد حث القادر
على الحج من رجال ونساء أن يبادروا بقضاء فرضهم، من باب أداء الفرض في أول
وقت وجوبه، ومن باب المسارعة في الخيرات؛ ولئلا تعرض له طوارئ تمنعه من
الحج فيندم؛ فإن دوام الحال من المحال. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ
لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ " وفي رواية: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ
فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ
الرَّاحِلَةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ" رواه أحمد.
ومن الناس من يمنعه من الحج معصية قد أصر عليها، أو كبيرة قارفها، فيقول:
لا أحج حتى أتوب منها، فمضى عمره وهو ما حج وما تاب من ذنبه. فجمع بين
معصيتين: ترك الحج والذنب الذي من أجله أخر الحج، وترك طاعتين: المبادرة
بالتوبة، والمبادرة بالحج. ومن كان مقيما على معصية فليتب منها، فإن غلبه
الشيطان فلا يترك الحج لأجلها فلعل حجه يهدمها في قلبه، فيعود من حجه بتوبة
وحج.
ومن الناس من يؤخر حج الفريضة لدين عليه،
وقد يوجد عنده سداد فلا يسدد ولا يحج، وهذا أخر الحج بلا عذر. ومنهم من
عليه دين مؤجل أو دين تقسيط، لم يحل أجل سداده، وهذا الدين لا يمنع الحج؛
فلا يصح أن يتعلل به من أخر الحج. وكثير ممن يتعللون بالديون لتأخير الحج
نراهم يقطعون الأرض طولا وعرضا للسياحة والنزهة في الصيف والإجازات؛ فبخلوا
على ربهم في حجهم، ولم يبخلوا على رفاهيتهم. وأقبح من هؤلاء من يتحايل
بالدين على إسقاط الحج، كما يتحايل على النصاب لإسقاط الزكاة؛ فإذا قرب
الحج استدان لئلا يحج، وإذا مضى الحج سدد دينه، وهذا مرتكب لإثمين عظيمين:
ترك الحج مع القدرة عليه، والتحايل على الله تعالى، ويخشى عليه من النفاق؛
فإن الله تعالى قال في المنافقين ﴿ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 9-10].
فالبدار البدار لقضاء فروض الله تعالى،
فلعل حاجا رجع من حجه كيوم ولدته أمه، ثم دهمته المنية بعد حجه فلقي الله
تعالى على أحسن حال. ولعل مسرفا على نفسه بالعصيان جأر إلى الله تعالى
بالدعاء في المناسك والمشاعر فاستجيب له فترك من ذنوبه وموبقاته بحجه ما
عجز عن تركه عشرات السنين؛ فإن الحج يهدم ما كان قبله كما جاء في الحديث..
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه
كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأدوا فرائضه ومناسكه، وعظموا حرماته وشعائره ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30].
أيها الناس:
من الشباب من يؤخر الحج بعد بلوغه مع
القدرة عليه، وتيسره له بحجة أنه يريد تعلم المناسك، فتمضي السنون ولم
يتعلمها. وربما دهمه الموت في شبابه وقد فرط في ترك الحج. ومن كان كذلك
فليستعن بالله تعالى، وليختر رفقة طيبة تعرف المناسك، وما من حملة حج إلا
وفيها دعاة وفقهاء ومرشدون فلا عذر لأحد في تأخير الحج.
ولا يحل لزوج أن يمنع زوجته من أداء
فرضها، ولا لوالد أن يمنع ولده من أداء فرضه؛ شحًا به، أو خوفًا عليه؛ فإن
الشفقة الحقيقة هي في الخوف على الأولاد من عقوبة الله تعالى بتركهم فرائضه
سبحانه. بل الواجب على الزوج أن يأمر زوجته بالحج، ويحثها عليها؛ لأنه أمر
بالطاعة. وإن رافقها إلى الحج، أو دفع نفقة حجها وحج محرمها معها كان ذلك
إحسانا لعشرتها، وعونا على أداء فرضها. وفي قصة الرجل الذي اكتتب في الغزو
وامرأته حاجة أمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يترك الغزو فقال
«ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» رواه الشيخان. فأمره بالرجوع عن الغزو
بعد اكتتابه فيه وخروجه له. والرجوع عن الجهاد بعد الخروج له منهي عنه،
لكنه أبيح في هذه الصورة. فعلم بهذا الحديث أن مرافقة الزوجة أو إحدى
المحارم لحج فرضها مقدم على جهاد التطوع، فيا له من فضل عظيم يغفل الناس
عنه.
ولو أن امرأة منعها زوجها من حج الفريضة
أو ولدا منعه أبوه منه مع قدرته عليه فلزوجة أن تحج مع أحد محارمها بدون
إذن زوجها، وللولد أن يحج دون إذن أبيه، فليس للأب ولا للزوج طاعة إن أمرا
بترك فريضة.
ومن أراد أداء فرضه فلا يلتفت للمثبطات،
ولا يستمع للمثبطين؛ فإن من عزم على إرضاء الله تعالى بأداء فرضه أعانه
الله تعالى، ويسر له كل عسير..
وعليه أن يستعد للحج مبكرا باختيار حملته،
واستخراج تصريحه، وتعلم أحكامه؛ فإن كثيرا من الناس يفوتهم قضاء فرضهم في
كل عام بسبب تأخرهم في الاستعداد للحج، فإذا أغلقت الحملات تسجيلها،
وامتلأت بحجاجها، تعلل بأنه لم يجد حملة يحج معها، وهذا دأبه في كل عام،
ويظن أن هذا عذرا صحيحا، والتفريط منه لا من غيره. ولو علم المفرط أنه يموت
هذا العام لترك الشواغل كلها ولم يهنأ بنوم ولا طعام حتى يحج فرضه،
فليفترض أنه يموت؛ لأنه لا يضمن بقاءه إلى عام آخر.
وكما أن لعيد الفطر لذة عظيمة بأداء فرض
الصيام فإن لإتمام النسك لذة أعظم من لذة عيد الفطر. وكما أن الصائم يفرح
كل مساء بفطره فإن الحاج يفرح أكثر منه بأداء كل منسك؛ ولذا يكثر في الحجيج
حمد الله تعالى على التيسير وعلى أداء المناسك على الوجه الأكمل الموافق
للسنة.. ولا يُحرم لذة أداء فريضة الحج إلا محروم، كيف؟! والحاج قد لبى
نداء الله تعالى به، وفرَّغ نفسه له، وقصد بيته، وأدى نسكه، فكم له من
الأجر عند ربه سبحانه وتعالى، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق