الخطبة الأولى
عَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ - رَضِىَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: إِنْ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا
وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ
تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ لَيْسَ
بِنِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا" حسنه الألباني عَنْ أَبِى
الدَّرْدَاءِ - رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ - رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ:« مَا
أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلاَلٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُو حَرَامٌ
وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ
عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا ». ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ
الآيَةَ ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64] الحاكم وصححه الذهبي.
أيها المسلمون:
إن الله فرض فرائض فلا يجوز تضييعها وحدَّ
حدودًا لا يجوز تعديها وحرم أشياء لا يجوز انتهاكها وهذه الحرمات هي حدوده
سبحانه فيحرم القرب منها وتعديها ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187] وقد توعد الله أولئك الذين يتعدون حدوده وينتهكون حرماته ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
﴾ [النساء: 14] وإن اجتناب الحرمات أمر واجب فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « مَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ »مسلم.
أيها المسلمون:
إن التحليل والتحريم حق خالص لله وحده
فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله ولا يجوز لأحد
كائنا من كان أن يحلل أو يحرم إلا بمقتضى ما دلَّ عليه الدليل الشرعي من
الكتاب والسنة وقد قال تعالى ﴿ وَلَا
تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
﴾ [النحل: 116، 117] قال الربيع بن خثيم "ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا
أو حرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا وإن من الشرك
الأكبر المبين تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو اعتقاد أن أحدا
يملك الحق في ذلك غير الله وإن من الكفر المستبين تنزيل القانون اللعين
منزلة شرع رب العالمين بالتحاكم إلى القوانين الوضعية والمحاكم الجاهلية عن
رضا واختيار مستحلا لذلك واعتقادا بجوازه وقد ذكر الله الكفر الأكبر في
قوله تعالى ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31] لما سمع
عدي بن حاتم الآية قَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَمْ
يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ قَالَ: " أَجَلْ، وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ
مَا حَرَّمَ اللهُ، فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا
أَحَلَّ اللهُ، فَيُحَرِّمُونَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ " صححه
الألباني وقد وصف الله عن المشركين بأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 29] ﴿
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ
مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ
تَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 59].
أيها المسلمون:
ولكن لما قل خوف الله في قلوب كثير من
الناس في هذا الزمن تجرأ كثير من الناس على فعل المحرمات وترك الواجبات
فكثر الظلم والعدوان وارتكاب المحرمات بل أعظم من ذلك فقد تجرأ على التحليل
والتحريم بعض مرضى النفوس حتى ممن لا يحسن قراءة الفاتحة فإذا ما أثيرت
قضية تحتاج إلى فتوى عالم إذا بك تسمع من هؤلاء المرضى والجهال من يقول هي
حلال أو حرام حتى تجرؤا على تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله فربما
ذكر حكم الغناء أو الدخان في مجلس فترى من هؤلاء المرضى والجهال من يقول هي
حلال ليست بحرام فما أعظمها من جرأة أوصلهم لها قلة الخوف من الله وضعف
الإيمان والجهل بأحكام الحلال والحرام.
أيها المسلمون:
من المشاهد أن كثيرا من ضعفاء النفوس
ومتبعي الهوى وقليلي العلم إذا سمع بالمحرمات متوالية تأفف وتضجر وغضب أشد
الغضب وقال كل شيء حرام كل شيء حرام ما تركتم شيئا إلا حرمتموه لقد عقدتم
حياتنا وضيقتم صدورنا ونغصتم عيشتنا وما عندكم إلا الحرام والتحريم إن
الدين يسر والأمر واسع والله غفور رحيم بينما أنتم عقدتمونا ومناقشة لهؤلاء
المرضى أقول:
أولا:
إن الله تعالى يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير يحل ما يشاء
ويحرم ما يشاء وإن من قواعد ديننا وعبوديتنا لخالقنا أن نرضى بما حكم الله
ونسلم له تسليما بلا حرج في الصدر وأن أحكام الله صادرة عن علم وحكمة وعدل
فليست عبثا ولا لعبا ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115] وأن الله قد بين سبحانه الضابط الذي عليه مدار العلم والحرمة فقال ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
﴾ [الأعراف: 157] فالطيبات حلال والخبائث حرام وأن التحليل والتحريم حق
خالص لله وحده فمن ادعاه لنفسه أو أقر به لغيره فهو كافر كفرا أكبرا مخرجا
من الملة ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21].
ثانيا: لا يجوز لأحد أن يتكلم في الحلال والحرام إلا العلماء العالمين بالكتاب والسنة وقد ورد التحذير الشديد فيمن يحلل ويحرم دون علم ﴿
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ
وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
ثالثا: إن المحرمات المقطوع بها مذكورة في لقرآن والسنة مثل قوله تعالى ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
﴾ [الأنعام: 151] وفي السنة كذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ
الْيَهُودَ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ،
حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا،
إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ »
المسند بسند صحيح.
رابعا: قد تأتي نصوص بذكر محرمات مختصة بنوع من الأنواع مثل ما ذكر الله المحرمات في المطاعم فقال ﴿ حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ [المائدة: 3] وذكر المحرمات في النكاح فقال ﴿ حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23] وذكر أيضا المحرمات في المكاسب فقال ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].
خامسا:
إن الله تعالى وهو الرحيم بعباده قد أحل لنا من الطيبات ما لا يحصى كثرة
وتنوعا ولذلك لم يفصل في المباحات لأنها كثيرة لا تحصر وإنما فصل في
المحرمات لانحصارها ولكي نعرفها ونجتنبها كما قال سبحانه ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119] وأما الحلال فأباحه على وجه الإجمال ما دام طيبا فقال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا
﴾ [البقرة: 168] فكان من رحمته أن جعل الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل
الدليل على التحريم وهذا من كما كرمه تعالى وتوسعته على عباده فعلينا
الطاعة والحمد والشكر له سبحانه، وبعض الجهلة إذا رأوا الحرام مفصلا ومعددا
عليهم ضاقت صدورهم ذرعا بالأحكام الشرعية وهذا من ضعف إيمانهم وقلة فقههم
في الشريعة فهل يريد هؤلاء أن يعدد عليهم أصناف الحلال حتى يقتنعوا بأن
الدين يسر؟ وهل يريد هؤلاء أن تسرد وتعدد الطيبات بأنواعها حتى يطمئنوا أن
الشريعة لا تكدر عليهم عيشهم؟ وهل يريدون أن يقال لهم بأن اللحوم المذكاة
من الإبل والبقر والغنم والأرانب والغزلان والوعول والدجاج والبط والحمام
والوز حلال وأن ميتة الجراد والسمك حلال؟ وهل يريدون بأن يقال لهم بأن
البقول والخضروات والفواكه وسائر الحبوب والثمار النافعة حلال؟ وهل يريدون
أن يقال لهم يريدون بأن يقال لهم بأن الملح والتوابل والبهارات حلال؟ وأن
الماء واللبن والعسل حلال أن ركوب الدواب والسيارات والسفن والقطارات
والطائرات حلال المعاصر حلال وأن سائر أدوات الطب والهندسة والحساب والرصد
والفلك حلال وأن البناء استخراج المياه والنفط والمعادن والتقنية والتحلية
والطباعة والحاسبات الآلية حلال وأن الأصل في البيع والشراء والكفالة
والإجارة والمهن والحرف من النجارة والحدادة والصناعة وإصلاح الآلات
والزراعة ورعي الأغنام رى ينتهي بنا المقام إذا أردنا أن نواصل في السرد
والعد فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.
سادسا:
وأما احتجاجهم بأن الدين يسر فهو حق أريد به الباطل فإن مفهوم اليسر ليس
بحسب الأهواء وآراء الناس وإنما بحسب ما جاءت به الشريعة فإن الفرق عظيم
بين انتهاك المحرمات بحجة أن الدين يسر وبين الأخذ بالرخص الشرعية كالجمع
والقصر والفطر في السفر والمسح على الخفين والتيمم عند فقد الماء أو خوف
الضرر باستعماله والجمع بين الصلاتين للمريض وحين نزول المطر وغير ذلك مما
هو يدل دلالة واضحة على يسر الشريعة وأنه دين يسر وسهولة.
سابعا:
إن مما ينبغي معرفته أن في تحريم المحرمات حكم عظيمة منها أن الله يبتلي
عباده بهذه المحرمات فينظر كيف يعملون هل يتركونها أم ينتهكونها ولولا هذا
الابتلاء لم يتبين الطائع من العاصي ولا أهل الإيمان من أهل الفسوق
والعصيان؟ ومنها تمييز أهل الجنة من أهل النار فأهل النار انغمسوا في
الشهوات التي حفت بها النار وأهل الجنة صبروا على المكاره التي حفت بها
الجنة فأهل الإيمان ينظرون إلى مشقة التكليف بعين احتساب الأجر وامتثال أمر
الله لنيل رضاه فتهون عليهم المشقة وأهل النفاق والفسوق والعصيان ينظرون
إلى مشقة التكليف بعين الألم والتوجع فتكون الوطأة عليهم شديدة والطاعة
عليهم عسيرة، ومنها أن بترك المحرمات يذوق المطيع حلاوة من ترك شيئا لله
عوضه الله خيرا منه ويجد لذة الإيمان وحلاوته في قلبه، ومنها أن الله لم
يحرم إلا ما فيه ضرر على الإنسان ولا خير فيه ﴿ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
بارك الله لي ولكم في القرآن
الخطبة الثانية
الحلال والحرام
عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ
بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ
اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ
فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ
يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ
فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا
صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ
كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ " البخاري ومسلم. لقد قسم النبي صلى الله
عليه وسلم الأشياء في هذا الحديث إلى ثلاثة أقسام وبين موقف المسلم من كل
قسم، فالقسم الأول الحلال البين وهو الطيبات من المآكل والمشارب والملابس
والمناكح والمكاسب مما نص الله ورسوله على حله أو لم يرد دليل على تحريمه
فيبقى على الإباحة وهذا القسم الكل يعرفه وتطمئن إليه نفس المؤمن وله آثار
طيبة على القلب والسلوك وله فوائد صحية للقلب والجسم ويقوي على الطاعة كما
قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
﴾ [المؤمنون: 51] وموقف المسلم من هذا القسم أن يأخذه ويتمتع به من غير
إسراف ويتقوى به على طاعة الله ويشكر نعمة الله عليه به، والقسم الثاني
الحرام البين وهو الخبائث من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمكاسب
مما نص الله ورسوله على تحريمه أو ظهر خبثه وضرره كالميتة والدم ولحم
الخنزير ونكاح المحارم والسرقة والظلم وغير ذلك وهذا القسم الكل أيضا يعرفه
ونفس المؤمن لا تطمئن إليه وله آثار قبيحة على القلب والسلوك وله أضرار
صحية على القلب والبدن لأنه يغذي تغذية خبيثة وموقف المسلم من هذا القسم
اجتنابه والابتعاد عنه وأن لا يدخله في ماله ولا يأكل منه ولا يلبس منه ولا
يستعمله بأي نوع من أنواع الاستعمال لأنه مأمور بتركه واجتنابه وعدم القرب
منه، والقسم الثالث هو المشتبه الذي يخفى حكمه على كثير من الناس فلا
يدرون هل هو من القسم الحلال أم من القسم الحرام ولا يظهر حكمه إلا للعلماء
وموقف المسلم من هذا القسم أن يتوقف عنه حتى يتبين له حكمه تغليبا لجانب
التحريم وإيثارا للسلامة وبراءة الذمة " فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ " وقد بين النبي في هذا الحديث أن لله
تعالى حمى منع الدخول فيه أو القرب منه وهو ما حرمه الله على عباده وسماها
حدودا ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187] ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأنعام: 151] فمن قارب حمى الله بتناول المشتبهات وقع في حمى المحرمات وحلت عليه العقوبات وأما الحلال فقد نهى الله عن تعديه ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
﴾ [البقرة: 229] ثم اعلموا أن أكل الحرام وتعاطيه بأي شكل وعدم التورع عن
الآثام يقسي القلب فلا يستجاب لصاحبه دعاء وإن أبعد القلوب من الله القلب
القاسي وأيما جسم نبت من سحت فالنار أولى به ولهذا قال الرسول - صلى الله
عليه وسلم - في آخر الحديث " وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا
صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ
كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ "
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق