مكان إلقاء الخطبة: مسجد دار السلام- بودابست- المجر
عنوان الخطبــــــة: من فضائل حج بيت الله الحرام
الخطبة الأولى:
المقدمة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره .....
أما بعد: فإن الغاية الغاية، والهدف الهدف من خلق الخلق هو عبادة الحق جل وعلا، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(الذاريات: 56). ولأن النفس تألف سريعا ما تعتاده، وتعتاد على ما تألفه
نوَّع الله -تعالى- التكليف في العبادات؛ ليختبر المكلف كيف يكون امتثاله
لهذه الأنواع؟ هل يكون فعله وتركه لما يوافق طبعه وهواه؟ أم يقدم ويحجم
وفقا لما يرضاه ربه ومولاه؟
فإذا تأملنا أركان الإسلام الخمسة وجدنا أن بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب من مال وبدن، حتى يتبين الشحيح
من الجواد، والمسارع من المتثاقل، وعبد الرب من عبد الهوى والطبع. فمن
الناس من يهون عليه صلاة ألف ركعة، ويعصب عليه جدا أن يبذل لله درهما
واحدا. ومنهم من يروق له البذل والعطاء، ويشق عليه أن يسجد لله ركعة واحدة.
فجاء هذا التنويع في العبادات ليُعرَفَ من يمتثل تعبدا لله، ومن يسير تبعا
لنفسه هواه. فهذا تنوع في العبادات يتمايز به الخلق في عبادتهم لله الحق.
ونوع ثان في التكليف ينقسم به إلى: كف عن
المحبوبات، وبذل للمحبوبات، فالكف عن المحبوبات كالصوم، يكف به المرء عن
الطعام والشراب والشهوة الحلال في غير الصيام امتثالا لأمر الله، والمرء لا
يكف عن محبوب إلا من أجل ما هو أحب إليه منه، فيمسك عن هذه الأشياء
الحبيبة إلى نفسه من أجل محبته لربه -جل وعلا- التي تثمر طاعة وامتثالا
وإقبالا على الأمر، وبعدا وفرارا وهجرا للنهي. فالصيام نوع تكليف فيه كف عن
المحبوبات. ونوع تكليف فيه بذل للمحبوبات كالزكاة؛ ففيها يبذل المرء جزءا
من ماله ويخرجه امتثالا لأمر الله جل وعلا. والمال محبوب إلى النفس جدا،
فلا يَبذُل العبد المالَ المحبوبَ إلى النفس إلا لمن هو أحب إليه من ماله،
بل ومن نفسه وأهله وعياله وهو الله جل وعلا، وصدق الله العظيم حين قال: {... وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ...} (البقرة: 165). فبهذا التنوع يظهر العابد لربه، من العابد لنفسه وطبعه.
وتنوع ثالث نوَّع به ربنا -تبارك وتعالى-
العبادات من حيث زمنها ووقتها، فعبادات غير مقيدة بوقت –عبادات مطلقة-
كمطلق الذكر النفل في غير أوقات الكراهة، وقراءة القرآن، وعبادات يومية
كالصلاة، يؤديها العبد خمس مرات في اليوم والليلة، وعبادة أسبوعية، وهي
صلاة الجمعة، يؤديها المسلمون مرة في الأسبوع، وعبادات سنوية، تفعل مرة
واحدة في العام، كالصوم والزكاة بشروطهما، وعبادة عمرية، تجب على العبد مرة
واحدة في عمره، وما زاد كان تطوعا، وهي الحج.
والحج فرض فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده، وهو ركن من أركان دين الإسلام العظيم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ
كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (آل عمران: 97). وقال عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ..} البقرة: 157). وقال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ
الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ". فالحج ركن من أركان الإسلام، وعبادة جليلة لها خصائصها وفضائلها.
فمن فضائل حج بيت الله الحرام: أنه من أفضل
الأعمال: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ".
متفق عليه. وعند أحمد والطبراني في الكبير عَنْ مَاعِزٍ -رضي الله عنه-
عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ
الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ
بِاللَّهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ
سَائِرَ الْعَمَلِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا". وصححه الألباني.
ومن فضائل الحج: أنه يمحو الذنوب ويكفر
السيئات، وينفي الفقر ويسد الحاجات، ويرفع المراتب والدرجات. يمحو الذنوب
ويكفر السيئات، فعن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". متفق عليه. وللترمذي: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
والحج ينفي الفقر ويسد الحاجات، كما عند أحمد
والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا
يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ
الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ
ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ".
والحج يرفع المراتب والدرجات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ترفع إبل الحاج رجلا ولا تضع يدا إلا كتب الله له بها حسنة، أو محا عنه سيئة، أو رفع بها درجة". رواه البيهقي وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
ومن فضائل الحج: أنه إذا كان مبرورا فليس له
ثواب وجزاء إلا الجنة. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ". وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ". قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ؟ قَالَ: "إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَطِيبُ الْكَلَامِ". رواه الطبراني في الأوسط، وابن خزيمة، والحاكم، وهو صحيح لغيره.
ومن فضائل الحج: أنه يهدم ما كان قبله، فعَنْ
ابْنِ شِمَاسَة -رحمه الله- قال: حضرنا عمرو بن العاص –رضي الله عنه- وهو
في سياقة الموت فبكى طويلا وقال: فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي
قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ! فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ:
فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: "مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟!" قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَ؟ا" قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: "أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ
الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا
كَانَ قَبْلَهُ؟!". رواه ابن خزيمة في صحيحه هكذا مختصرا ورواه مسلم وغيره أطول منه.
ومن فضائل الحج أنه جهاد الصغير والكبير،
والمرأة والضعيف ومن لا يقوى على الجهاد، بل هو أفضل الجهاد للمرأة. فعند
البخاري وغيره عنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَرَى الْجِهَادَ
أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: "لَا، لَكُنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ".
قال الحافظ رحمه الله: (اخْتُلِفَ فِي ضَبْط "لَكِنَّ" فَالْأَكْثَر
بِضَمِّ الْكَاف خِطَاب لِلنِّسْوَةِ، وروي:"لَكِنْ" بِكَسْرِ الْكَاف
وَزِيَادَة أَلِف قَبْلهَا بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاك، وَالْأَوَّل أَكْثَر
فَائِدَة لِأَنَّهُ يَشْتَمِل عَلَى إِثْبَات فَضْل الْحَجّ، وَعَلَى
جَوَاب سُؤَالهَا عَنْ الْجِهَاد، وَسَمَّاهُ جِهَادًا لِمَا فِيهِ مِنْ
مُجَاهَدَة النَّفْس). ورواه ابن خزيمة أيضا، ولفظه: قلت: يا رسول الله! هل
على النساء من جهاد؟ قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة".
وعند النسائي بسند حسن لغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جِهَادُ الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ، وَالضَّعِيفِ، وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ".
وعند ابن ماجه بسند صحيح لغيره عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ".
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في
الكبير والأوسط، وعَنِ الْحُسَيْنِ بن عَلِيًّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي جَبَانٌ، وَإِنِّي ضَعِيفٌ (يعني لا يقوى على
الجهاد في سبيل الله) قَالَ: "هَلُمَّ إِلَى جِهَادٍ لا شَوْكَةَ فِيهِ، الْحَجُّ". وصححه الألباني.
ومن فضائل الحج: أن الحجاج والعمار وفد الله
العزيز الغفار. أخرج النسائي والحاكم وغيرهما عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ". وعند ابن ماجه وابن حبان من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ". وصححه الألباني. ورواه البزار عن جابر رضي الله عنه، وهو حسن لغيره. الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم.
ومازال وفـد الله يقـصد مكة إلى أن يـرى البيت العتيق وركناه
يطوف به الجــاني فيغفر ذنبه ويسقط عنـه جرمــه وخطاياه
فمولى الموالي للزيارة قـد دعـا أنقعـد عنهـا؟! والمــزور الله
نحج لبيت حجه الرسـل قبـلنا لنشهد نفعا فـي الكتاب وعـدناه
فيا من أسى يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنـا تمحـى ويرحمنـا الله
ومن فضائل الحج: أن من خرج حاجا أو معتمرا
فمات، كتب له أجر الحاج والمعتمر إلى يوم القيامة، فعند أبي يعلي بسند صحيح
لغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم
القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج
غازيا فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة".
وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ
عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ -أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ- قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغْسِلُوهُ
بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا". (والسدر: شجر النبق، يجفف ورقه ويستعمل في التنظيف)
فيا لفرحته ويا لسعادته ذلكم الذي يموت هنالك
في إحرامه، يبعث يوم القيامة ملبيا، والناس يبعثون من قبورهم في فزع وقلق،
وخوف وفرق، والأهوال جسيمة، والكروب عظيمة، فبينما الحال هكذا يأتي صوت
لطالما اهتزت له قلوب، واشتاقت له أنفس، وتهافتت عليه أرواح، وطربت له
آذان، ورددته ألسن، ودمعت له عيون، يبعث ملبيا يردد نشيج الحجيج يقول:
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا
شريك لك).
الخطبة الثانية:
المقدمة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ....
أما
بعد: فقد كان الصالحون –وما زالوا- تهفوا أرواحهم، وتطير قلوبهم، وتشتاق
نفوسهم، وتدمع عيونهم في مثل هذه الأيام شوقا لبيت الله الحرام.
فها هي أم أيمن -امرأة أبي علي أحمد بن عطاء الروذباري- تخرج من مصر وقت خروج الحجيج إلى الصحراء، والجِمالُ تمر بها، وهي تبكي وتقول: (واضعفاه ... واضعفاه!! هذه حسرة من انقطع عن البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن ربِّ البيت).
وكان بعض الصالحين يتحسر إذا فاته الحج، ويقول: (لئن سار القوم وقعدنا، وقربوا وبعدنا فما يؤمننا أن نكون ممن قال الله فيهم: {... وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التوبة: 46).
عباد
الله! لقد أمرنا نبينا –صلى الله عليه وسلم- وحضنا، ورغبنا وحثنا على
تعجيل الحج، وحذرنا من التهوان فيه: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله -عنهما-
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ".
رواه أحمد، وصححه الألباني. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْفَضْلِ أَوْ
أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ". رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استمتعوا بهذا البيت، فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة". رواه البزار، والطبراني في الكبير، وابن
خزيمة وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني. وقال ابن
خزيمة: قوله: "ويرفع في الثالثة" يريد بعد الثالثة. وفي الصحيحين عن أَبِي
هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ". والسُّوَيْقَتَيْنِ: تَثْنِيَة سُوَيْقَة، وَهِيَ تَصْغِير سَاقَ، أَيْ لَهُ سَاقَانِ دَقِيقَانِ.
وروى البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدةٌ ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين)
فحجوا
عباد الله قبل ألا تحجوا، قبل أن تخرب الكعبة، ويرفع البيت الحرام. حجوا
قبل أن توافيكم المنية، ويقبض أرواحكم رب البرية. فبادروا بصالح العمل، قبل
أن يوافيكم الأجل، واحذروا طول الأمل، فالعمر يمضي على عجل.
فيا
من صحح الله لكم أجسادكم، وملككم الزاد والراحلة، ولم تحجوا حجة الإسلام
بعد! حجوا قبل ألا تحجوا، حجوا قبل أن تخرب الكعبة، واستمتعوا باليت قبل أن
يرفع، حجوا قبل أن ينزل بساحتكم الموت، حجوا قبل يأتيكم الفوت.
فالصحيح
أن الحج واجب على الفور على من كان مستطيعا، قال ابن قدامة -رحمه الله- في
(المغني): من وجب عليه الحج, وأمكنه فعله, وجب عليه على الفور, ولم يجز له
تأخيره. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ...} (آل عمران: 97). والأمر على الفور، ومعنى أن
الأمر على الفور: أنه يجب على المكلف فعل المأمور به بمجرد التمكن من فعله،
ولا يجوز له تأخيره من غير عذر. فهذا لمن لم يحج حجة الإسلام.
وأما من حج قبل، فدونه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: "تَابِعُوا
بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ
وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ".
وعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: {إن عبدا صححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم} رواه ابن حبان وغيره، وصححه الألباني.
وكان
السلف الصالح يتابعون بين الحج والعمرة، فقد حج ابن المسيب: أربعين حجة.
وحج الحسين بن علي -رضي الله عنهما- خمساً وعشرين حجة ماشياً. وحج أبو داود
ستين حجة. وحج أبو محمد عبد الملك الأنصاري سبعاً وسبعين حجة. وقَالَ
الحسنُ بنُ عمران ابن أخي سفيان بن عيينة: حججتُ مع عمي سفيان آخر حجة
حجَّها سنة سبع وتسعين ومائة، فلمَّا كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه، ثم
قَالَ: قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين عاماً، أقولُ في كلّ سنة: اللهم لا
تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييتُ مِنْ الله من كثرة ما
أسأله ذلك، فرجع فتوفي رحمه الله.
فاللهم ارزقنا حج بيتك الحرام، عاما بعد عام، وتقبله منا يا رحمن، ولا تحرم خير ما عندك بسوء ما عندنا.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب
العالمين. وسبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا
أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
المرجو نشر هذا الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق